إرسال إلى صديق طباعة أضف تعليق حفظ

(في طريق التفقّه)

الاربعاء 08 صفر 1432 الموافق 12 يناير 2011  
(في طريق التفقّه)
د. هاني بن عبدالله الجبير

تكاثرت النصوص الشرعية الدالة على الثناء على الفقيه، والمتضمنة أن التفقه دليل خيرية المرء، وأنه أفضل من الخروج للجهاد مع فضله العظيم، ففي الصحيحين:من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس فقال:"اللهم فقهه في الدين".

ويقول الله تعالى:"فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون".

قال ابن عباس يتفقهوا في الدين أي: ليتعلموا ما أنزل الله على نبيه، فهذا الفقه الذي جاءت النصوص بفضله هو فهم ما أنزل من التشريعات عموماً، لذا يقول الحسن: يتفقهوا: أي يريهم الله الظهور على المشركين والنصر، فيعلموا أن الله ينصر رسوله.

وفي استعمال  صيغة (التفعّل) الدالة على التكلّف دليل على أن هذا التعلم يحتاج في معرفته إلى جهد، قال ابن عاشور: التفقه: تكلّف الفقاهة، ولما كان مصير الفقه سجيّة لا تحصل إلا بمزاولة ما يبلغ إلى ذلك جاءت صيغة التفعّل، وفي هذا إيماء إلى أن فهم الدين أمر دقيق المسلك لا يحصل بسهولة، ولذا جزم العلماء أن الفقه أفضل العلوم).

فالفقه عند الصدر الأول وفي تعبيرات الوحي مرادف للدين، ولذا عرّف أبو حنيفة الفقه بأنه معرفة النفس مالها وما عليها، وسمى كتابه في الاعتقاد: الفقه الأكبر.

ويدل لذلك دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:"نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"، ومدلول ذلك أن كل ما جاء عن الله ورسوله فهو فقه.

وهذا الاستعمال دخله التخصيص فأخرج منه علم الاعتقاد، ثم أخرج منه ما يتصل بالأخلاق والآداب، وبقى اسم الفقه مستعملاً في الأحكام الشرعية العملية، والفقيه هو العارف بها من أدلتها، وبذلك لا يكون المقلّد فقيهاً كما نقل ابن عبد البر الإجماع عليه.

ولكن الشائع عند المتأخرين أن من حفظ جملة من الأحكام المجردة عن أدلتها يسمّى فقيهاً، وإن تفاوتوا في تحرير مقدار هذا المحفوظ، فعند متأخري الحنابلة أن الفقيه من حفظ دليل الطالب، وفهم منتهى الإرادات في الجمع بين المقنع والتنقيح وزيادات، وقيل:

يا من يروم بفقهه***في الدين نيل مطالب

اِقرأ لشرح المنتهى***واحفظ دليل الطالب

 

وبعض المالكية عنده أن من درس مختصر خليل وكرر المدونة كل عام فهو فقيه.

 قالوا ومن لم يختـم المدوّنة***في العام لا يفتى بما قد دونه

وغير من يختم نص المختصر***        في كل عام وشروحه حصر

مع الإحاطة بكل حاشية***فخل فتواه كرّيح ماشية

 

وعلى كل فالفقه المطلوب في الشريعة لا يحصل إلا بتكلّف، فلا تكفي القراءة والدراسة النظريّة للوصول له، بل يحتاج لمجالسة  الفقهاء إذ في هذا العلـم

ما لا يقرأ في الكتب وإنما يتوصل إليه بالمشافهة والمجالسة وطول الممارسة.

وفي شرح ابن رجب لعلل الترمذي: (قال ابن مهدي: معرفة الحديث إلهام، لو قلت للعالم بعلل الحديث من أين قلت هذا، لم يكن له حجة فشأنه شأن الصيرفي أرأيت لو أتيته بدراهمك فقال: هذا جيد، وهذا بهرج، أكنت تسأله أو تسلّم له؛ فهذا كذلك، فاسألني ثم اذهب لفلان وفلان يجيبك بمثل ما أجبتك).

فأنت تراه لم يقطع التعبير بعلة الحديث المانعة من قبوله، ولذا يعلّق ابن رجب فيقول: (وهذا مما لا يعبّر عنه بعبارة تحصره، وإنما يرجع فيه أهله إلى الفهم والمعرفة التي خُصّوا بها).

ولهذا تجد خللاَ وضعفا عند من لم يجالس العلماء، ولذا لا يدرك هذه المرتبة، ويلمس المتأمل أثر فوت المجالسة عليه في تفويت الفقاهة في جملة قضايا.

قال الشاطبي: (أنفع طرق أخذ العلم: المشافهة، لخاصّة جعلها الله بين المعلّم والمتعلّم يشهد بها كل من زاول العلم والعلماء، فكل مسألة يقرؤها  المتعلم في كتاب ويرددها فلا يفهمها فإذا ألقاها إليه المعلم، فهمها بغتة، وهذا من فوائد مجالسة العلماء، إذ يفتح للمتعلم منهم ما لا يفتح له دونهم، ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم، وقد كره الإمام مالك الكتابة، فقيل له: ما نصنع؛ قال: تفهمون حتى تستنير قلوبكم ثم لا تحتاجون إلى الكتابة)الموافقات(1/96).

ولذا يذكرون في التراجم: تفقّه بفلان، أي: تخرج على يديه في الفقه.

والحقيقة أن طريق المتفقّه في الوقت الراهن يمر بإشكالات، منها:

عدم التكامل المعرفي للفقه، ومن أسباب هذه الإشكالية عدم التلقي المذهبي، فإن من تلقى الفقه عن غير الكتب المذهبية تضعف ملكته، ولذا نجد الخارجين عن المذاهب عادوا لدراسة الفقه عن طريق المتون كأهل الحديث في الهند، خاصة أن الكتب المذهبيّة حررت وضبطت واعتنى مؤلفوها وشراحها بضبط عباراتها، ولذا يكون رصيد المتفقه منها كبيراً.

كما أن من لم يدرس الفقه كله بهذه الطريقة لم تتكامل عنده الملكة الفقهية، فلا تترابط لديه المسائل ولا تتناسق في بناء معرفي متكامل.

كما أن عدم الأخذ منها يضعف ارتباط النظائر، والقدرة على التعليل، وتمام فهم المصطلحات في سياقاتها متى كان لكل سياق مراد معين يخصّه، وهي من المشكلات التي يعرفها ممارس الفقه ومدرّسه.

ومن هذه الإشكالات عدم القدرة على التطبيق الواقعي لمسائل الفقه النظريّة.

وهذه الإشكالية ليست مختصة بالوقت الحاضر بل هي مشكلة قديمة ولذا يقول الحطاب: (استعمال كليات الفقه وانطباقها على جزئيات الواقع بين الناس؛ عسير على كثير من الناس).

ويقول ابن عبد السلام: (تجد الرجل يحفظ كثيراً من الفقه ويعلّمه غيره فإذا سئل عن واقعة لبعض العوام لا يحسن الجواب).

وأحسب أن هذه الإشكالية أثر لعدم طول مجالسة العلماء، فإن مجالستهم مران وتجربة مشاهدة لمعرفة الأوصاف الطرديّة والمؤثرة وتصور الوقائع وما يرتبط بها.

ومن هذه الإشكالات: اعتماد  الفقيه والمفتي على المدون الفقهي مع كونه قد يرتبط في ترتيب الحكم وتقريره بالمصلحة المتغيّرة، ومثال ذلك ما قرره الفقهاء في باب الحضانة عند سفر والدي المحضون أن والده أولى لخوف ضياع نسبه، ومثل هذا المقصد المصلحي لا يناسب العصر الحاضر؛ إذ الأنساب محفوظة بالأوراق الثبوثية  للجميع مما لم يعد معه هذا التعليل مؤثراً.

وكذلك ما قرروه عند سفر أحد والدي المحضون أن المقيم أولى بالحضانة لما في السَّفَر من المشقة، ومعلوم الآن أن السفر أصبح متعة مطلوبة في كثير من الأحوال.

ويقرب منه ما يرتب من الأحكام على الأعراف التي قد تغيرت، ومثال ذلك في باب الحضانة ما قرره الفقهاء أن الطفل إذا خيّر بين أبويه فاختار أمه فإنه يكون عندها  ليلاً، ويكون في النهار  عند أبيه ليعلّمه ويربيه.

مع أن هذا العصر تقوم المدارس (وليس الآباء) بهذا الدور لوجود المدارس التي تقطع مدة طويلة من النهار، وانشغال الآباء بالأعمال المكتبية التي لا يتعلمها الصغار منهم، مع ما في المدن الكبرى من صعوبة تسليم الابن واستلامه صبحاً ومساءً بين أبويه.

ومن هذه الإشكالات: عدم النظر الارتيادي، والذي أصبح ضرورة الآن مع هذا التطوّر السريع والتغيّر والمطرّد المشارع، حتى صار الواقع عبئاً مرهقاً  للفقيه.

والنظر الارتيادي للفقيه، يجعله يتهيأ للمستقبل بالاستعداد للمسائل التي يغلب على الظن حصولها مع الاحتياط لتغير الصورة المتوقعة.

ويجعله كذلك يؤكد على سبب الحكم المتوقع تغيره لارتباطه بالمصلحة أو العرف، ويجعله يبين الحلول الشرعية للمشكلات القادمة.

وكل ذلك يجعل الفقيه قائداً للمجتمع سائراً أمامه لا خلفه، وقد سبق لي تفصيل ذلك في بحث مستقبل.

ومن هذه الإشكالات: إشكال يخص النوازل التي نجد الباحثين يعمدون إلى تخريج حكمها على ما نص عليه الفقهاء، فيقيسون ما وجد  الآن على ما ذكره الفقهاء، ومع كون ذلك ليس دليلاً شرعياً إذ ليس هو القياس المطلوب في الشرع، ومع ما في التخريج من إشكالات،  يقول الإمام أحمد كما في العدة (5/1436): (إنما يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله، فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال، فأردت أن تقيس  عليه فقد أخطأت، فإذا خالفه في بعض أحواله فليس هو مثله).

وكذلك فإن قاعدة جمهور الفقهاء أن الأصل في العقود الصحّة، وأنه يجوز إحداث عقود جديدة غير العقود المسماة عند الفقهاء؛ دافع كاف لإحداث عقود تناسب هذا العصر دون للجوء لمثل هذه التخريجات التي قد تلفق بين صور ومسائل من أبواب مختلفة.

هذه جملة من عقبات طريق التفقه، وهي عقبات تزيد أجر الفقيه وتجعله يزداد صلابة بممارستها، ولعل الأيام القادمة تشهد من طلبة العلم من يذلل هذه العقبات أو بعضها. والله الموفق.

إرسال إلى صديق طباعة أضف تعليق حفظ

تعليقات الفيسبوك

الآراء المنشورة لاتعبر عن رأي موقع الإسلام اليوم أو القائمين عليه.
علما بأن الموقع ينتهج طريقة "المراجعة بعد النشر" فيما يخص تعليقات الفيسبوك ، ويمكن إزالتها في حال الإبلاغ عنها من قبل المستخدمين من هنا .
مساحة التعليق تتسع لمناقشة الأفكار في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
  • - الهجوم على أشخاص أو هيئات.
  • - يحتوي كلمة لا تليق.
  • - الخروج عن مناقشة فكرة المقال تحديداً.

تعليقات الإسلام اليوم

التعليقات

  1. 1 - رغوووووووووودة
    مساءً 02:51:00 2011/05/01

    عالم جليل طرح رائئئئئئئئئئئئع

الصفحة 1 من 1