إرسال إلى صديق طباعة أضف تعليق حفظ

قواعد نبوية [13/50]

الاحد 22 ربيع الثاني 1432 الموافق 27 مارس 2011  
قواعد نبوية [13/50]
د. عمر بن عبد الله المقبل

من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه

ما أجلها من قاعدة وأسماها! يسكن العدل في سكونها، ويتربع القسط على عرشها!

لا محاباة ولا طبقية ولا مجاملة في هذا الدين العظيم الذي يربي في أتباعه رضاعة العزة والكرامة بشيء يقدرون عليه، ومن كسبهم وجدهم، لا بشيء آخر لا طاقة لهم به.

وبيان هذا أن الإنسان لا يحاسب، ولا يمدح ولا يذم على ما لا اختيار له فيه، كنسبه، ولونه، وجماله، ومكانه، والزمان الذي يعيش فيه، ونحو هذه المعاني، بل يمدح ويذم على قوله وعمله فذاك من كسبه!

ولا ريب أن النسب الشريف من نعمة من الله على العبد إذا اقترن بالتقوى، إلا أن لم يجعل لها الشرع اعتباراً في التفاضل مطلقاً، إلا اللهم ما اتصل بنسب النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الشريعة "علقت بالنسب أحكاما مثل كون الخلافة من قريش، وكون ذوي القربى لهم الخمس، وتحريم الصدقة على آل محمد - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك؛ لأن النسب الفاضل مظنة أن يكون أهله أفضل من غيرهم" (1).

ولقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بوسائل عدّة، ورسّخه بعدة رسائل أرسلها في أوقات متفاوتة، وبأساليب متنوعة، من ذلك:

1 - أنه أول من أُنزِلَ عليه: "وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الأَقْرَبِيْنَ": "يا معشر قريش! اشترُوا أنفسَكم من اللهِ؛ لا أُغني عنكم من اللهِ شيئاً، يا بني عبد المطلب، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب، لا أُغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمّة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد، سليني ما شئتِ، لا أغني عنك من الله شيئاً" (2).

2 - في فتح مكة، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالاً أن يصعد فوق الكعبة ليرفع الأذان، في مشهد ما ظنّ بعض مُسْلِمةِ الفتح أن يعيش ليرى هذا العبد الحبشي يقف كهذا الموقف! ولكنه الإسلام، والهدي النبوي الذي يربي بالفعل والقول.

وليس هذا فحسب، بل إنه في نفس اليوم يدخل - صلى الله عليه وسلم - الكعبةَ ويصلي فيها، ولا يدخل معه سوى أسامة بن زيد - مولاه ابن مولاه - وبلال الحبشي، وعثمان بن طلحة المسؤول عن مفتاح الكعبة! (3).

إنها رسالة أبلغ من مائة خطبة، إنها رسالة عملية ليعرف الناس في هذا اليوم العظيم ما هي موازين محمد صلى الله عليه وسلم في تقييم الناس، ومعرفة منازلهم!

3 - وهو موقف وقع في أعظم مشهد عرفته الدنيا في ذلك الوقت!

إنه مشهد حجة الوداع، ففي بعض مشاهد تلك الحجة، وبينما الناس مستعدون للنفير من عرفة، وإذا بالأبصار ترمق الدابة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يركبها، ويتساءلون: من الذي سيحظى بشرف الارتداف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - (شرف الارتداف خلف الرسول –صلى الله عليه وسلم-) فلم يرعهم إلا وأسامة - الغلام الأسود: مولاه وابن مولاه - يركب خلف النبي صلى الله عليه وسلم!

فعل هذا صلى الله عليه وسلم، وهو الذي خطب في ذلك اليوم خطبته العظيمة التي قرر فيها أصول التوحيد والإسلام، وهدم فيها أصول الشرك والجاهلية، وقال كلمته المشهورة: "إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي هاتين موضوع".

إنها الترجمة العملية لقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى" (4).

وإذا تأملتَ القرآن وجدته يصدق هذه القاعدة النبوية الجليلة:"من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، ففي القرآن سورة كاملة في ذمِّ عم النبي صلى الله عليه وسلم أبي لهب، تتلى إلى يوم القيامة، ويقرأها الصبيان في أول محفوظاتهم، وفي مقابل ذلك، فالصحابي الوحيد الذي ذكر اسمه في القرآن، هو زيد بن حارثة، مولاه وحبه، فأي برهان أعظم من ذلك على تقرير هذه القاعدة!

يقول ابن تيمية - رحمه الله -: "ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يمدح فيها أحداً بنسبه، ولا يذم أحداً بنسبه؛ وإنما يمدح بالإيمان والتقوى،ويذم بالكفر والفسوق والعصيان" (5).

وقال أيضاً: "والفضل إنما هو بالأسماء المحمودة في الكتاب والسنة مثل: الإسلام، والإيمان، والبر، والتقوى، والعلم، والعمل الصالح، والإحسان، ونحو ذلك، لا بمجرد كون الإنسان عربياً، أو عجمياً، أو أسود، أو أبيض، ولا بكونه قرويا، أو بدوياً" (6).

أيها الإخوة الأكارم:

ومن الأشياء اللافتة للناظر في تراجم الأئمة الكبار - الذين جاءوا بعد طبقة الصحابة رضوان الله عليهم - أن كثيراً منهم من الموالي، وكم نفع الله بهم من أمم! ولا زال نفعهم ولن يزال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فكانوا، فظهر بذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله يرفع بهذا الدين أقواما ويضع به آخرين" (7).

يقول الزهري - رحمه الله -: قدمت على عبد الملك بن مروان فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قلت من مكة. قال فمن خلفت بها يسود أهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال وبم سادهم؟ قلت بالديانة والرواية! قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا.

قال فمن يسود أهل اليمن؟ قال قلت: طاوس بن كيسان، قال فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت: من الموالي، قال وبم سادهم؟ قلت: بما سادهم به عطاء، قال: إنه لينبغي. قال فمن يسود أهل مصر؟ قال قلت: يزيد بن أبي حبيب، قال فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت: من الموالي.

قال: فمن يسود أهل الشام؟ قال قلت: مكحول، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت: من الموالي، عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل!

قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران ، قال فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت: من الموالي.

قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قال قلت: الضحاك بن مزاحم، قال: فمن العرب أم الموالي؟ قال قلت: من الموالي.

قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قال قلت: الحسن بن أبي الحسن، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت: من الموالي.

قال: فمن يسود أهل الكوفة؟ قال قلت: إبراهيم النخعي، قال: فمن العرب أم الموالي؟ قال قلت: من العرب.

قال: ويلك يا زهري فرجت عني! والله ليسودن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها! قال قلت: يا أمير المؤمنين! إذاً هو أمر الله ودينه، من حفظه ساد، ومن ضيّعه سقط". (8)

وهذا صالح السمان، المحدث الثقة، ابن ذكوان، مولى جويرية الغطفانية، فهو مولى من الموالي! لكن اسمع شهادة أبي هريرة له:

قال الذهبي: وقيل: إن أبا هريرة - رضي الله عنه - كان إذا رأى أبا صالح هذا قال: ما يضر هذا أن لا يكون من بني عبد مناف.

يقول الأعمش: كان أبو صالح مؤذناً، فأبطأ الإمام؛ فأمّنا، فكان لا يكاد يجيزها من الرقة والبكاء! رحمه الله.(9)

روي أن عمر - رضي الله عنه - قال: "...إن العرب شرفت برسول الله، ولعل بعضها يلقاه إلى آباء كثيرة، وما بيننا وبين أن نلقاه إلى نسبه ثم لا نفارقه إلى آدم إلا آباء يسيرة، مع ذلك: والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال، وجئنا بغير عمل؛ فهم أولى بمحمد منا يوم القيامة! فلا ينظر رجل إلى قرابة! وليعمل لما عند الله؛ فإن من قصر به عمله لم يسرع به نسبه" (10).

أيها الأخ الموفق:

وثمة نوع من الأنساب يقع فيه التفاخر من بعض الناس، وهو النسب المعنوي، فمن الناس من قد يفاخر بأن أباه كان عالماً، أو وزيراً، أو أميراً، أو حاكماً، وهو قليل الحظ من الديانة والأخلاق، وماذا يغني عنه ذلك؟! والأجدر بهذا المتفاخر أن يكون عصامياً لا عظامياً، أي: يجتهد أن يكون كعصام الذي سوّد نفسه بنفسه، بسبب علو همته - بعد توفيق الله - ولا يكون عظامياً، يفاخر بآباء ماتوا، وعظام بالية:

إذا المرءُ لم يبنِ افتخاراً لنفسه *** تضايق عنه ما بنتهُ جدوده

ولله در القائل:

لعمر الله ما الإِنسان إلا بدينه***فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب

لقد رفع الإسلام سلمان فارسٍ***و قد وضع الشرك الشقيَ أبا لهب

فما الحسب الموروث إن در دره***لمحتَسَبٌ إلا بآخر مُكتَسَب

إذا الغصن لم يثمر وإن كان شعبة**من المثمرات اعتده الناس في الحَطَب

 

ولسائل أن يقول: "فإن لم يبطئ به العمل، وسارع إلى الخير وسبق إليه، فهل يسرع به النسب؟

فيقال: لا شك أن النسب الشريف من نعم الله على العبد إذا تزين بالتقوى، وإلا فلا أثر له، ولا ينفع صاحبه عند الله - كما سبق -، وفي الصحيح: "إن الله اصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم"، وقال: "خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية إذا فقهوا". (11)

يقول ابن تيمية - رحمه الله - موضحاً هذا المعنى:

"وأما نفس القرابة فلم يعلق بها ثواباً ولا عقاباً، ولا مدح أحداً بمجرد ذلك، وهذا لا ينافي ما ذكرناه من أن بعض الأجناس والقبائل أفضل من بعض، فإن هذا التفضيل معناه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"، فالأرض إذا كان فيها معدن ذهب ومعدن فضة، كان معدن الذهب خيراً؛ لأنه مظنة وجود أفضل الأمرين فيه، فإن قدر أنه تعطل ولم يخرج ذهبا، كان ما يخرج الفضة أفضل منه.

فالعرب في الأجناس، وقريش فيها ثم هاشم في قريش مظنة أن يكون فيهم من الخير أعظم مما يوجد في غيرهم؛ ولهذا كان في بني هاشم النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يماثله أحد في قريش، فضلاً عن وجوده في سائر العرب وغير العرب، وكان في قريش الخلفاء الراشدون وسائر العشرة وغيرهم ممن لا يوجد له نظير في العرب وغير العرب، وكان في العرب من السابقين الأولين من لا يوجد له نظير في سائر الأجناس.

فلا بد أن يوجد في الصنف الأفضل ما لا يوجد مثله في المفضول، وقد يوجد في المفضول ما يكون أفضل من كثير مما يوجد في الفاضل، كما أن الأنبياء الذين ليسوا من العرب أفضل من العرب الذين ليسوا بأنبياء، والمؤمنون المتقون من غير قريش أفضل من القرشيين الذين ليسوا مثلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك المؤمنون المتقون من قريش وغيرهم أفضل ممن ليس مثلهم في الإيمان والتقوى من بني هاشم.

فهذا هو الأصل المعتبر في هذا الباب دون من ألغى فضيلة الأنساب مطلقاً، ودون من ظن أن الله تعالى يفضل الإنسان بنسبه على من هو مثله في الإيمان والتقوى، فضلا عمن هو أعظم إيمانا وتقوى، فكلا القولين خطأ، وهما متقابلان، بل الفضيلة بالنسب فضيلة جملة، وفضيلة لأجل المظنة والسبب، والفضيلة بالإيمان والتقوى فضيلة تعيين وتحقيق وغاية ; فالأول يفضل به لأنه سبب وعلامة، ولأن الجملة أفضل من جملة تساويها في العدد. والثاني: يفضل به لأنه الحقيقة والغاية" (12).

اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك، وارفعنا في الدنيا والآخرة.

 

_________

(1)  مجموع الفتاوى (35 / 231).

(2) خ(4771)، م(348) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وروي أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيح.

(3) والحديث في الصحيحين من حديث ابن عمر: البخاري ح(2826)، ومسلم ح(1329).

(4) أحمد (23536) وإسناده صحيح.

(5) مجموع الفتاوى (35/230).

(6)اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1 / 415).

(7) مسلم: (817).

(8) تاريخ دمشق (40/394).

(9) انظر: سير أعلام النبلاء: (5/ 37).

(10) تاريخ الأمم والملوك: (2/ 570).

(11) شرح الأربعين النووية للعثيمين: (1/ 366).

(12)  .

إرسال إلى صديق طباعة أضف تعليق حفظ

تعليقات الفيسبوك

الآراء المنشورة لاتعبر عن رأي موقع الإسلام اليوم أو القائمين عليه.
علما بأن الموقع ينتهج طريقة "المراجعة بعد النشر" فيما يخص تعليقات الفيسبوك ، ويمكن إزالتها في حال الإبلاغ عنها من قبل المستخدمين من هنا .
مساحة التعليق تتسع لمناقشة الأفكار في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
  • - الهجوم على أشخاص أو هيئات.
  • - يحتوي كلمة لا تليق.
  • - الخروج عن مناقشة فكرة المقال تحديداً.

تعليقات الإسلام اليوم