قواعد نبوية [17/50]
وأتبع السيئة الحسنة تمحها
هذه قاعدة من قواعد تهذيب النفس، وتربيتها على المجاهدة، والرقي في مدارج العبودية، إنها التي دلّ عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها".
إنك لتتنسم الرحمة من بين أحرف هذه القاعدة النبوية، إنها تصب شآبيب الرجاء والطمع في رحمة الله الرحيم في قلوب المذنبين الخطائين – وكلنا ذاك الرجل -.
إن هذه القاعدة إنما هي أثرٌ من آثار سبْقِ رحمةِ الله لغضبه: "إن رحمتي سبقت غضبي" (1) وأثرٌ من آثار سعة رحمته: "ورحمتي وسعت كل شيء"، وهي في الوقت ذاته بوابة أملٍ لكل من يخطئ أو يذنب، ومن ذا الذي ليس كذلك؟!
إن هذه القاعدة النبوية، جاءت ضمن وصية من ثلاث وصايا، أوصى بها النبيُ صلى الله عليه وسلم صاحبَه الجليل أبا ذر رضي الله عنه حين قال له: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" (2).
وتأمل في حكمةِ من أوتي جوامع الكلم - عليه الصلاة والسلام – كيف عقّب الوصية بالتقوى بقوله: &artshow-86-149689.htm#371;وأتبع السيئة الحسنة تمحها»! ذلك أن العبد لما كان مأموراً بالتقوى في السر والعلن، مع أنه لابد أن يقع منه أحياناً تفريط في التقوى - إما بترك بعض المأمورات، أو بارتكاب بعض المحظورات - أمره أن يفعل ما يمحو به هذه السيئة؛ وهو أن يتبعها بالحسنة (3).
ومن عجيب الموافقات: أن هذا الحديث بوصاياه الثلاث وقع معناه في ثلاث آيات متتابعات؛ فتأملها أيها المسلم في قول الله تعالى: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" فهذه توافق الوصية الأولى: "اتق الله حيثما كنت"، ثم قال تعالى: "الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" هذه أخلاق! فهي توافق الوصية الثالثة: "وخالق الناس بخلق حسن"، ثم قال تعالى:"وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ" وهذه توافق الوصية الثانية - وهي قاعدتنا التي نحن بصدد الحديث عنها -:"وأتبع السيئة الحسنة تمحها"!
ومن الموافقات بين الوحيين - أيضاً- أن هذه القاعدة الجليلة أتت موافقة لقوله تعالى: "إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ".
إذا تبين هذا؛ فحقٌّ على الناصح لنفسه أن يحرص -إذا أخطأ أو قصّر- أن يبادر إلى حسنة تمحو السيئة التي قبلها، وأن يفتش - ما استطاع - في الأعمال التي تمحو سيئاته؛ فإن الحديث عامٌ في جميع الذنوب - صغيرها وكبيرها- ولقد علّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمتَه ذلك في نماذج تطبيقية، يستطيع الموفّق أن يقيس عليها، ومن ذلك:
- ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف منكم فقال في حلفه: باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق" (4).
وهذا في الحقيقة مخرجٌ سديدٌ لمن اعتادت ألسنتهم أن يتلفظوا بألفاظ بدعية أو شركية، ويحتاجون مجاهدة للتخلص منها؛ كمن يحلف بغير الله، كالذي يقول: والنبي، أو: وحياتك، ونحوها من الألفاظ الشركية؛ فليقل بعدها مباشرة: لا إله إلا الله، لأن الشرك سيئةٌ لا يمحوها إلا حسنة التوحيد.
ومثله من تعوّد الدعوة إلى القمار؛ فليتصدق ولو بشيءٍ يسير؛ لتعتاد نفسه الطاعة، وتنفر عن المعصية (5).
ومثل ذلك - أيضاً -: من اعتاد لسانه اللعن، أو بذيء الكلام؛ فليقل بعده ما يضاده، فمن لعن أخاه، فليدْعُ له بالرحمة، وليستغفر؛ امتثالاً لهذه القاعدة النبوية الشريفة: "وأتبع الحسنة السيئة تمحها"، ولأن الله تعالى يقول: "إن الحسنات يذهبن السيئات".
ولعلنا هنا، نذكّر ببعض ما ورد في النصوص الشرعية مما هو ماحٍ ومكفّرٌ للذنوب التي لا يكاد يسلم منها أحد، ولنبدأ بهذه القصة:
1- ففي الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها، فأنا هذا، فاقض في ما شئت! فقال له عمر: لقد سترك الله، لو سترت نفسك! قال: فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقام الرجل فانطلق، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً دعاه، وتلا عليه هذه الآية: "أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين"[هود: 114] فقال رجل من القوم: يا نبي الله! هذا له خاصة؟ قال: "بل للناس كافة" (6).
إذن: الصلوات الخمس - ومن بينها الجمعة - من أعظم الحسنات الماحيات للذنوب – كما وردت بذلك الآثار - لاسيما إن أقيمت بشروطها وأركانها وواجباتها، وقد دلّت السنة على أن ذلك مختص بالصغائر دون الكبائر؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن، ما لم تغش الكبائر" (7).
2- ومن الحسنات العظام التي تمحو الذنوب: الحج المبرور؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" (8)، ولما أراد عمرو بن العاص رضي الله عنه أن يُسْلم، أراد أن يشترط مغفرة ذنوبه، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟" (9).
3- والحسنة الجامعة التي تمحو جميع الذنوب: هي التوبة؛ كما سبق في حديث عمرو بن العاص، وكما دلّت على ذلك نصوص كثيرة، منها:
قوله تعالى: "فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا"[مريم: 59، 60]، ومنها: "وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا"[الفرقان: 68 - 70].
لكن ما هي هذه التوبة؟
"إنها محو أثر الرغبة في الذنب من لوح القلب، والباعثُ عليها هو: شعور التائب بعظمة من عصاه، وما له من السلطان عليه في الحال، وكون مصيره إليه في المآل، لا جرم أن الشعور بهذا السلطان الإلهي بعد مقارفة الذنب يبعث في قلب المؤمن الهيبة والخشية، ويُحدِث في روحه انفعالاً مما فعل، وندماً على صدوره عنه، ويزيد هذا الحال في النفس تذكّرُ الوعيد على ذلك الذنب، وما رتّبه اللهُ عليه من العقوبة في الدنيا والآخرة، هذا أثر التوبة في النفس، وهذا الأثر يزعج التائب إلى القيام بأعمالٍ تضاد ذلك الذنب الذي تاب منه، وتمحو أثره السيئ "إن الحسنات يذهبن السيئات" (10).
أيها المؤمن والمؤمنة: إن توبتنا المستمرة الدائمة تعني يقيننا بقدرة الله تعالى علينا، وتوحيدنا له تعالى، وذُلّنا وخضوعنا له سبحانه، وأنه لا أحد يملك محو ذنوبنا سواه؛ كما جاء في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (11): "إن عبداً أصاب ذنباً؛ فقال: رب أذنبتُ فاغفر لي، فقال ربه: أعَلِم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به! غفرتُ لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنباً؛ فقال: رب أذنبت آخر فاغفره! فقال: أعَلِم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به! غفرتُ لعبدي، ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنباً؛ فقال: أذنبت آخر فاغفره لي، فقال: أعَلِم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به! غفرت لعبدي، غفرت لعبدي، غفرت لعبدي - ثلاثاً- فليعمل ما شاء"(12).
ومعنى هذا أنه إذا كان هذا دأبه - يذنب فيتوب ويستغفر - فليفعل ما شاء؛ لأنه كلما أذنب كانت توبته واستغفاره كفارة لذنبه فلا يضره؛ وليس معنى هذا التجرئةُ على الذنوب! فلا يمكن أن تجرّئ الشريعة على الذنب وهي تحذر منه! وليس هذا مخاطباً به من يكذبون في توبتهم، أو لا يخلصون فيها.
إن في هذه القاعدة إشارة واضحة إلى سرعة الرجوع والإقلاع عن الذنب، وعقدِ العزم على عدم العودة، والمبادرة إلى إرجاع حقوق العباد، وعدم التسويف أو التأخير؛ فإن (سوف) من جنود إبليس، "ومن ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف؛ كان بين خطرين عظيمين:
أحدهما: أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي؛ حتى يصير رَيناً وطبعاً فلا يقبل المحو.
الثاني: أن يعاجله المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو؛ فيأتي اللهَ بقلبٍ غير سليم، ولا ينجو إلا مَن أتى الله بقلب سليم" (13).
اللهم هب لنا قلوباً تنشرح لطاعتك، وألسنةً رطبة بذكرك، وتوبةً تجلو أنوارُها ظلمة الإساءة والعصيان، واعف عنا؛ فأنت عفو كريم تحب العفو.
_________________
(1) البخاري (6986) واللفظ له، مسلم (2751).
(2) الترمذي ح(1987)قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
(3) ينظر: جامع العلوم والحكم: (1/ 411).
(4) البخاري ح(5756)، مسلم ح(1647).
(5) والصحيح أن الصدقة ليست بالضرورة أن تكون بالمال الذي أراد القمار به، بل بأي شيء من المال. ينظر: فتح الباري لابن حجر (8 / 612).
(6) البخاري ح(503)، ومسلم ح(2763).
(7) مسلم ح(233).
(8) البخاري ح(1723)، مسلم ح(1350).
(9) مسلم ح(121).
(10) تفسير المنار: (1/ 265).
(11) في (مسلم) أنه يرويه عن ربه تعالى.
(12) البخاري ح(7068)، مسلم ح(2758).
(13) ينظر: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين: (ص271).