إرسال إلى صديق طباعة أضف تعليق حفظ

قواعد نبوية[44/50]

الاربعاء 25 جمادى الآخرة 1433 الموافق 16 مايو 2012  
قواعد نبوية[44/50]
د. عمر بن عبد الله المقبل

من كان يؤمن بالله واليوم الآخر  فليُكرم جارَه

إن هذه القاعدة لبنة من لبنات قصر مكارم الأخلاق الذي بناه ديننا العظيم، وهذه من مكارم الأخلاق مع الخلق.

وتأمل كيف صدّر هذه القاعدة العظيمة بهذا الشرط العظيم فقال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر" أي: إيماناً كاملاً تاماً، نقياً صافياً؛ فإن إيمانه بالله تعالى، الذي يأمره بالإحسان للخلق، وإيمانه باليوم الآخر وما فيه من أهوال؛ يدعوه لحفظ حق الجار.

وقوله: "فليكرم جاره" ولم يحدد نبيُّك صلى الله عليه وسلم صورةً معينة من صور الكرم؛ فيدخل في ذلك كل ما يمكن أن يُكرم به: من البِشْر، وطلاقة الوجه، وبذل الندى، وكف الأذى، وتحمل ما فرط منه، ونحو ذلك، ولم يقل مثلاً، فليكرمه: بإعطاء الدراهم، أو الصدقة، أو اللباس، أو ما أشبه هذا، وكل شيء يأتي مطلقاً في الشريعة فإنه يرجع فيه إلى العُرف، كما قال الناظم:

وكلُّ ما أتى ولم يحدَّدِ*** بالشرع كالحِرز فبالعُرف أحْدُدِ

فالإكرام إذاً ليس مُعيَّناً، بل ما عدّه الناسُ إكراماً، ويختلف من جار إلى آخر، فجارك الفقير ربما يكون إكرامه برغيف خبز، وجارك الغني لا يكفي هذا في إكرامه، وجارك الوضيع ربما يكتفي بأدنى شيء في إكرامه، وجارك الشريف يحتاج إلى أكثر (2).

أيها الإخوة الأكارم:

لقد جاء في بعض طرق هذا الحديث عند الإمام مسلم رحمه الله: "فليحسن إلى جاره" (3)، ويقال في هذا اللفظ ما قيل في سابقه: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد صورةً معينة من صور الإحسان ، فيدخل في ذلك كل ما يمكن أن يُحسن به إلى الجار: من بذل المعروف، وقضاء الدين، وإعانته في ضوائقه، والوقوف معه في مصائبه، وتفقد حوائجه، وغير ذلك.

وتأمل أيها المؤمن الموفق هذا الحديث العظيم الذي يؤكد هذا المعنى الشرعي الكبير، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما زال جبريلُ يوصيني بالجارِ حتى ظننت أنه سيُوَرِّثه" (4).

ومن المعلوم أن جبريلَ عليه السلام إنما فعل ذلك بأمرٍ من الله تعالى، وقد وقع التكرار بالوصية إلى الحدّ الذي توقع النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يكون للجار نصيبٌ من إرث جاره!

الله أكبر! قارن هذا بأحوال بعض الجيران اليوم، تجد ما يؤسَف عليه: مِن بُعد عن الحفاوة بهذه الوصية النبوية الكريمة.

أيها الأكارم:

إن قوله صلى الله عليه وسلم في هذه القاعدة: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره" يدل على أن هذا من خصال الإيمان، والأعمال تدخل في الإيمان.

وأعمال الإيمان تارة تتعلق بحقوق الله: كأداء الواجبات وترك المحرمات، ومن ذلك: قول الخير، والصمت عن غيره، وتارة تتعلق بحقوق عباده: كإكرام الضيف، وإكرام الجار، والكف عن أذاه (5).

وتأمل ـ أيها المبارك ـ في قوله صلى الله عليه وسلم في هذه القاعدة: "فليُكرم جارَه"؛ وهذا طلب شيءٍ زائد عن كفّ الأذى، وحفظ أسرار الجار، وحب الخير له! يتبين لك بذلك كلّه حرص الإسلام على حفظ حق الجوار.

يقول بعض أهل العلم: وجملة حق الجار على الجار: إن استقرضَك أقرضتَه، وإن استعانك أعنتَه، وإن مرض عدتَه، وإن احتاج أعطيتَه، وإن افتقر عدتَ عليه، وإن أصابه خير هنيّته، وإن أصابته مصيبةٌ عزَّيته، وإذا مات اتبعتَ جنازته، ولا تستطيل عليه بالبناء فتَحجُب عنه الريحَ إلا بإذنه، ولا تؤذيه بريح قِدرك إلا أن تغرف له، وإن اشتريتَ فاكهة فأَهدِ له، وإن لم تفعل فأدخلها سراً ولا تُخرج بها ولدَك ليغيظ بها ولدَه (6)، وَتهَنِّئَهُ فِي الْفَرَحِ، وَتُظْهِرَ الشَّرِكَةَ فِي السرور معه، وتصفح عن زلاته، ولا تطلع مِنَ السَّطْحِ إِلَى عَوْرَاتِهِ، ولا تضَايِقه فِي مصب الماء في ميزابه، ولا في مطرح التراب في فنائه، ولا تضيق طرقه إِلَى الدَّارِ، وَلَا تتْبِعُهُ النَّظَرَ فِيمَا يَحْمِلُهُ إِلَى دَارِهِ، وتسْتُرُ مَا يَنْكَشِفُ لَهُ مِنْ عَوْرَاتِهِ، وتقف معه إِذَا نَابَتْهُ نَائِبَةٌ، وَلَا تغْفلُ عَنْ تفقد حاجة أهله عِنْدَ غَيْبَتِهِ (7).

شكا بعضُهم كثرة الفأر في داره! فقيل له: لو اقتنيت هراً؟ فقال: أخشى أن يسمع الفأرُ صوتَ الهر فيهرب إلى دور الجيران؛ فأكون قد أحببتُ لهم ما لا أحب لنفسي! (8)

وإذا كان حسن الجوار يدعو إليه ويتخلق به نفرٌ من أهل الجاهلية؛ فلأن يدعو إليه ويتخلق به المسلم بربه أحق وأولى، هذا قائل الجاهلية يقول:

ناري ونارُ الجار واحدةٌ*** وإليه قبلي ينزل القِدرُ

ما ضر جاري إذ أجاوره*** أن لا يكون لبابه ستر

وقال آخر:     

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي*** حتى يواري جارتي مأواها

ونلاحظ من نصوص الشريعة وإطلاقاتها، ومن تطبيقات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أن هذا الحق يشمل المسلمَ والكافرَ، والعابدَ والفاسقَ، والصديقَ والعدوَ، والغريبَ والبلديَ، والنافعَ والضارَ، والقريبَ والأجنبيَ، والأقربَ داراً والأبعدَ، وله مراتبُ أعلى من بعض، فأعلاها: من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها، ثم أكثرها، وهلم جراً إلى الواحد، وعكسه: من اجتمعت فيه الصفات الأخرى، فيُعطى كلٌ حقه بحسب حاله (9).

فإن قلتَ - أيها الأخ الكريم -: ما حدّ الجيران الذين يجب لهم هذا الحق الذي عظّمه الشرع؟

والجواب: أن في ذلك اختلافاً بين أهل العلم، وأصح الأقوال في هذه المسألة: أن ذلك يرجع إلى العرف، فما تعارف عليه الناس أنه من الجيران فهو كذلك إن شاء الله تعالى (10).

قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! إن لي جارين، فإلى أيهما أُهدي؟ قال: "إلى أقربهما منك باباً" (11).

قوله: "أقربهما" أي: أشدهما قرباً، قيل: الحكمة فيه أن الأقرب يرى ما يدخل بيتَ جاره من هدية وغيرها؛ فيتشوف لها، بخلاف الأبعد، وأن الأقرب أسرع إجابة لما يقع لجاره من المهمات، ولا سيما في أوقات الغفلة(12).

وفي مقابل ما سبق لنتأمل هذا الوعيد الذي يؤكد خطورة أذية الجيران:

يقول صلى الله عليه وسلم - كما في البخاري من حديث أبي شريح رضي الله عنه -: "والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن!" قيل: ومن يا رسول الله؟! قال: "الذي لا يأمن جارُه بوائقَه" (13).

ففي هذا دليل على تحريم العدوان على الجار؛ سواء كان ذلك بالقول أو بالفعل.

أما بالقول: فأن يسمع منه ما يزعجه ويقلقه، كالذين يفتحون الراديو أو التلفزيون أو غيرهما مما يُسمَع فيزعِج الجيران، فإن هذا لا يحل له، حتى لو فتحه على كتاب الله! وهو مما يزعج الجيران بصوته فإنه معتدٍ عليهم، ولا يحل له أن يفعل ذلك!

وأما بالفعل: فيكون بإلقاء الكناسة حول بابه، والتضييق عليه عند مداخل بابه، أو بالدق، أو ما أشبه ذلك مما يضره، ومن هذا أيضاً: إذا كان له نخلة أو شجرة حول جدار جاره فكان يسقيها حتى يؤذي جاره بهذا السقي، فإن ذلك من بوائق الجار فلا يحل له.

إذن: يحرم على الجار أن يؤذي جاره بأي شيء، فإن فعل فإنه ليس بمؤمن، والمعنى أنه ليس متصفاً بصفات المؤمنين في هذه المسألة التي خالف بها الحق (14).

قال بعض الحكماء: عجباً من المسيء الجوار! المؤذي لجاره، وهو مطلع على أخباره! وعالم بأسراره، يجعله عدواً، إن علم خيراً أخفاه، وإن توهم شراً أفشاه، فهو قذاةٌ في عينه لا يطرف عنها، وشجىً في حلقه ما يتسوغ معه، فليتَه إذ لم يكرم مثواه، كفَّ عنه أذاه، فإنما دارُ المرء دنياه! أو لم يسمع قول الشاعر:

ونُكرِم جارَنا حتى ترانا***كأن لجارنا فضلاً علينا؟ (15)

ختاماً .. "يقول الحسن البصري - رحمه الله -: ليس حُسن الجوار كفّ الأذى عن الجار، ولكن حسن الجوار: الصبر على الأذى من الجار" (16).

اللهم اجعلنا من الحافظين لحقوق جيرانهم، المتخلقين بما أمرتهم، المنتهين عما نهيتم، اللهم أصلح أحوال المسلمين، وألف بين قلوبهم، ووفقهم لما تحب وترضا.

_______

(1) البخاري ح(6019)، مسلم ح(47).

(2) ينظر: شرح الأربعين النووية للعثيمين: (ص177).

(3) شرح الزرقاني على الموطأ: (4/  478).

(4) البخاري ح(5669)، مسلم ح(2624).

(5) انظر: جامع العلوم والحكم(1/ 333).

(6) روي في حديث عن معاذ، فتح الباري (10/  446): والسياق أكثره لعمرو بن شعيب، وفي حديث بهز بن حكيم: (وإن أعوز سترته) وأسانيدهم واهية، لكن اختلاف مخارجها يشعر بأن للحديث أصلاً.

(7) انظر: إحياء علوم الدين (2/  213).

(8) إحياء علوم الدين: (2/  213).

(9) ينظر: فتح الباري: (10/  441).

(10) ينظر: فتح الباري (10/ 444): قال بن أبي جمرة: إذا أكَّد حق الجار مع الحائل بين الشخص وبينه، وأُمر بحفظه، وإيصال الخير إليه، وكف أسباب الضرر عنه؛ فينبغي له أن يراعي حق الحافظين اللذين ليس بينه وبينهما جدار ولا حائل! فلا يؤذيهما بإيقاع المخالفات في مرور الساعات؛ فقد جاء أنهما يُسَرَّان بوقوع الحسنات، ويحزنان بوقوع السيئات؛ فينبغي مراعاة جانبهما، وحفظ خواطرهما: بالتكثير من عمل الطاعات، والمواظبة على اجتناب المعصية؛ فهما أولى برعاية الحق من كثير من الجيران!

(11) البخاري ح(2140).

(12) فتح الباري: (10/  447).

(13) البخاري ح(5670).

(14) شرح رياض الصالحين. للعثيمين (3/  178).

(15) لباب الآداب. لأسامة بن منقذ: (ص262-263) .

(16) السابق: (ص262).

إرسال إلى صديق طباعة أضف تعليق حفظ

تعليقات الفيسبوك

الآراء المنشورة لاتعبر عن رأي موقع الإسلام اليوم أو القائمين عليه.
علما بأن الموقع ينتهج طريقة "المراجعة بعد النشر" فيما يخص تعليقات الفيسبوك ، ويمكن إزالتها في حال الإبلاغ عنها من قبل المستخدمين من هنا .
مساحة التعليق تتسع لمناقشة الأفكار في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
  • - الهجوم على أشخاص أو هيئات.
  • - يحتوي كلمة لا تليق.
  • - الخروج عن مناقشة فكرة المقال تحديداً.

تعليقات الإسلام اليوم