إرسال إلى صديق طباعة أضف تعليق حفظ

وقفات مع حجة النبي صلى الله عليه وسلم(الحلقة الأولى)

الثلاثاء 4 ذو القعدة 1423 الموافق 07 يناير 2003  
وقفات مع حجة النبي صلى الله عليه وسلم(الحلقة الأولى)
د. بندر بن نافع العبدلي

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده اللَّه فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّه الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّه كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّه وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) .
وبعـد :
فإن الحج مدرسةٌ إيمانية ، وصلة تربوية ، يزداد به المرء إيماناً، ويزداد إحساناً وإيقاناً ، يُحس فيه بالراحة والطمأنينة والأنس، مع وجود المشقة والعناء والتعب ، لا سيما مع أعداد الحجاج الهائلة من جميع أنحاء المعمورة،يؤدي المسلم فيه هذه الشعائر بروحٍ عالية،ونفسٍ مطمئنة ، وحاله تقول:حبذا لو طالت أيام الحج.

في أيام الحج صور وعظات ، وعبر وآيات ، واكتساب علم وخبرات ، وحصول منافع ودفع سيئات ، ودوام ذكر وعبرات ، قال تعالى: ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّه فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ).
هذه المدرسة الإيمانية لابد من تقويمها ، حتى تؤدى على وفق ما جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ليتحقق موعود اللَّه فيها بمغفرة الذنوب والسيئات.
وقد كنت منذ عام أتدبر حجة النبي صلى الله عليه وسلم التي سردها جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه ، وما فيها من العبر والعظات والآيات ، لا سيما وأن بعض أهل العلم قد استنبط منها أكثر من مائة فائدة.
والواقع أن المتأمل لحجته صلوات اللَّه وسلامه عليه ربما يقف على مئات الفوائد.
قال النووي رحمه اللَّه - عن حديث جابر الآتي -: " وهو حديث عظيم ، مشتمل على جمل من الفوائد ونفائس من مهمات القواعد، وهو من أفراد مسلم ، لم يروه البخاري في "صحيحه" ، ورواه أبو داود كرواية مسلم، قال القاضي : وقد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا ، وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءاً كبيراً، وخرج فيه من الفقه مائة ونيفاً وخمسين نوعاً ، ولو تقصى لزيد على هذا القدر قريب منه" (1).
فحري بالمسلم أن يعتني بحجة النبي صلى الله عليه وسلم ويتدبر ما فيها ، حتى يكون حجه مطابقاً لحجه صلى الله عليه وسلم .
ولقد أحسن الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه اللَّه حيث جعل هذا الحديث مدخلاً له في شرح مناسك الحج في كتابه "حجة النبي صلى الله عليه وسلم " .
فلأهمية هذه الحجة رأيت أن أُدوِّن ما ظهر لي منها ، وهي جُلُّ الفوائد وأهمها ، وسميتها " وقفات مع حجة النبي صلى الله عليه وسلم " ، وإلا فلو تتبعت الفوائد كلها لطال البحث ، ولصعب على الناظر فيه إدراكه.
كتبت هذه الوقفات رجاء النفع بها ، ولتذكير الأمة بحجة نبيهم صلى الله عليه وسلم وربطهم بها ، وطلباً لثواب اللَّه والوصول إلى دار كرامته.
واللَّهَ أسأل أن يجعل عملي صالحاً ولوجهه خالصاً ، وأن يجمعنا مع نبينا صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم ، وأن ينفع بهذه الوقفات إنه جواد كريم.

نص حديث جابر الطويل
روى مسلم في " صحيحه " من طريق حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بن محمد ، عن أبيه قال: دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، فَسَأَلَ عَنْ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ ، فَقُلْتُ : أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِي فَنَزَعَ زِرِّي الأَعْلَى ، ثُمَّ نَزَعَ زِرِّي الأَسْفَلَ ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلامٌ شَابٌّ ، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ أَخِي سَلْ عَمَّا شِئْتَ ، فَسَأَلْتُهُ وَهُوَ أَعْمَى ، وَحَضَرَ وَقْتُ الصَّلاةِ ، فَقَامَ فِي نِسَاجَةٍ مُلْتَحِفًا بِهَا ، كُلَّمَا وَضَعَهَا عَلَى مَنْكِبِهِ رَجَعَ طَرَفَاهَا إِلَيْهِ مِنْ صِغَرِهَا ، وَرِدَاؤُهُ إِلَى جَنْبِهِ عَلَى الْمِشْجَبِ فَصَلَّى بِنَا ، فَقُلْتُ : أَخْبِرْنِي عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ بِيَدِهِ فَعَقَدَ تِسْعًا فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجٌّ ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ ، كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : كَيْفَ أَصْنَعُ ؟ قَالَ : اغْتَسِلِي ، وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ ، نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا ، وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ ، وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ ، وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ ، فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ : "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ، لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ " ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ ، فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ ، وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَلْبِيَتَهُ ، قَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَسْنَا نَنْوِي إِلاَّ الْحَجَّ ، لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ ، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا ، ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلام فَقَرَأَ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) ، فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَكَانَ أَبِي يَقُولُ وَلا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلاَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ : (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) ، وَ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ الصَّفَا قَرَأَ : ( إِنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ) أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فَبَدَأَ بِالصَّفَا ، فَرَقِيَ عَلَيْهِ ، حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ : "لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ " ، ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ ، قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ ، حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى ، حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ، فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا ، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ فَقَالَ: لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً ، فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لأَبَدٍ ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الأُخْرَى ، وَقَالَ : "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ " ، مَرَّتَيْنِ "لا بَلْ لأَبَدٍ أَبَدٍ" ، وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَوَجَدَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِمَّنْ حَلَّ ، وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا وَاكْتَحَلَتْ ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ : إِنَّ أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا ، قَالَ : فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ بِالْعِرَاقِ : فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِي صَنَعَتْ ، مُسْتَفْتِيًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا ، فَقَالَ : صَدَقَتْ صَدَقَتْ ، مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ ؟ قَالَ : قُلْتُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ ، قَالَ : "فَإِنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ فَلا تَحِلُّ" ، قَالَ : فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْيِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِائَةً ، قَالَ : فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا ، إِلاّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ .

فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى ، فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَلا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلاَّ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا ، حَتَّى إِذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي ، فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ : " إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ، أَلا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا ، رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ ، كِتَابُ اللَّهِ ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي ، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟"، قَالُوا : نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ ، فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ : "اللَّهُمَّ اشْهَدْ ! اللَّهُمَّ اشْهَدْ " ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ أَذَّنَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ ، وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ ، حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى : "أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ"، كُلَّمَا أَتَى حَبْلاً مِنْ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلاً ، حَتَّى تَصْعَدَ ، حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ ، وَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ ، حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا ، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ ، وَكَانَ رَجُلاً حَسَنَ الشَّعْرِ أَبْيَضَ وَسِيمًا ، فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِينَ فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ ، فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ يَنْظُرُ ، فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ مِنْ الشِّقِّ الآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ ، يَصْرِفُ وَجْهَهُ مِنْ الشِّقِّ الآخَرِ يَنْظُرُ ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلاً ، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى ، حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا ، مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ ، فَنَحَرَ ثَلاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ ، وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ ، فَأَكَلا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ ، فَقَالَ : "انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ! فَلَوْلا أَنْ يَغْلِبَكُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ"، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ .
ثم ساق بسنده من طريق حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ ، حَدَّثَنَا محمد بن جَعْفَرُ عن أبيه قال : أَتَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ ، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ : وَكَانَتْ الْعَرَبُ يَدْفَعُ بِهِمْ أَبُو سَيَّارَةَ عَلَى حِمَارٍ عُرْيٍ ، فَلَمَّا أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، لَمْ تَشُكَّ قُرَيْشٌ أَنَّهُ سَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ ، وَيَكُونُ مَنْزِلُهُ ثَمَّ ، فَأَجَازَ وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ ، حَتَّى أَتَى عَرَفَاتٍ فَنَزَلَ.
الوقفة الأولى: شدة متابعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له، واقتدائهم به:
لقول جابر رضى اللَّه عنه :"فقدم المدينة بشر كثير ،كلهم يلتمس أن يأتم برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ويعمل مثل عمله".
وقال أيضاً:"حتى إذا استوت به ناقته على البيداء ، نظرت إلى مدِّ بصري بين يديه ، من راكبٍ وماش ، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ،ومن خلفه مثل ذلك ، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ، وعليه ينزلُ القرآن، وهو يعرف تأويله ، وما عمل به من شيء عملنا به ".
وقد دل على ذلك قوله تعالى :( لقد كان لكم في رسول اللَّه أسوة حسنة لمن كان يرجوا اللَّه واليوم الآخر ) آية (21) سورة الأحزاب .
وقال:( قل إن كنتم تحبون اللَّه فاتبعوني يحببكم اللَّه ويغفر لكم ذنوبكم ) آية(31)سورة آل عمران.
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الإقتداء به في الحج ، فقال: "خذوا عني مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه " أخرجه مسلم قال القرطبي رحمه اللَّه :"وهذا أمر على الإقتداء به ، وحوالة على فعله الذي وقع به البيان لمجملات الحج في كتاب اللَّه " (2).
وفي الحج أمثلة كثيرة على ذلك :
1- ففي" الصحيحين "عن عابس بن ربيعة رحمه اللَّه قال:"رأيت عمر يقبل الحجر ، ويقول : إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ، ولولا أني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك" (3).
ولمسلم : عن عبد اللَّه بن سرجس رضي اللَّه عنه قال: "رأيت الأصلع - يعني عمر بن الخطاب - يقبل الحجر ويقول :واللَّه إني لأُقبّلك، وإني أعلم أنك حجر ، وأنك لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبلتك "(4).
قال ابن الجوزي رحمه الله: "وفي هذا الحديث من الفقه أن عمر نبّه على مخالفة الجاهلية فيما كانت عليه من تعظيم الأحجار ، وأخبر أني إنما فعلت ذلك للسنة ، لا لعادة الجاهلية ، وفيه بيان متابعة السنة ، وإن لم يوقف لها على علل ، على أنه قد ذكرت علتان في تقبيل الحج لمسه "(5).
وقال النووي رحمه اللَّه :"وأما قول عمر رضي اللَّه عنه : لقد علمت أنك حجر،وإني لأعلم أنك حجر ، وإنك لا تضر ولا تنفع ، فأراد به بيان الحث على الإقتداء برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في تقبيله ، ونبه على أنه لولا الإقتداء به لما فعله ، وإنما قال : وإنك لا تضر ولا تنفع ، لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين كانوا ألفوا عبادة الأحجار ، وتعظيماً ورجاء نفعها، وخوف الضرر بالتقصير في تعظيمها ، وكان العهد قريباً بذلك، فخاف عمر رضي اللَّه عنه أن يراه بعضهم يقبله ، ويعتني به فيشتبه عليه"(6).
وقال الطبري رحمه الله : "أراد عمر رضي اللَّه عنه أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته ، كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان "(7).
قلت : ففي هذا الحديث دليل على شدة متابعة عمر رضي اللَّه عنه للنبي صلى الله عليه وسلم حيث قبل الحجر مع كونه لا يضر ولا ينفع ، لكن لكون النبي صلى الله عليه وسلم فعله فإننا نفعله .
وفيه دليل على أن الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم أنها له ولأمته ، وأن الأصل التأسي به فيها ، ما لم يرد دليل يقتضي تخصيصه بها .
واعلم أن السنة هو استلام الحجر الأسود وتقبيله في الطواف إن تيسر ، فإن شق استلمه بيده وقبّل يده ، لما روى مسلم عن نافع قال : "رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ،ثم قبّل يده ، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفعله ""(8).
وروى أيضاً عن أبي الطفيل رضي اللَّه عنه قال:رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ، ويستلم الركن بمحجن معه ، ويقبل المحجن""(9).
فإن شق استلامه باليد أو بشيء ، أشار إليه ، لما روى البخاري عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: " طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير ، كلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده وكبَّر ""(10).
فهذه ثلاث صفات وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم .

  • ثم اعلم أنه يشرع أن يقول عند ابتداء الطواف :"بسم اللَّه واللَّه أكبر".
    لما روى عبد الرزاق والبيهقي وغيرهما بسند صحيح :"أن ابن عمر رضي اللَّه عنهما كان إذا استلم الركن قال:"بسم اللَّه واللَّه أكبر""(11).

    2 - في "الصحيحين " والترمذي وغيرهم ، عن أبي الطفيل قال:"كنت مع ابن عباس ، ومعاوية لا يمر بركن إلا استلمه ، فقال له ابن عباس : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يستلم إلا الحجر الأسود والركن اليماني ، فقال معاوية : ليس شيء من البيت مهجوراً" . هذه رواية الترمذي .
    وفي رواية مسلم : " أنه سمع ابن عباس يقول :لم أر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يستلم إلا الركنين اليمانيين" .
    وفي رواية البخاري : عن أبي الشعثاء جابر بن زيد قال: "ومن يتّقي شيئاً من البيت ؟ وكان معاوية يستلم الأركان : فقال له ابن عباس : إنه لا يستلم هذان الركنان ، فقال : ليس شيء من البيت مهجورا ، وكان ابن الزبير يستلمهن كلُّهن ".
  • وفي "الصحيحين" عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال :"لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين ".
    ففي هذين الحديثين دليل على شدة متابعة الصحابة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا سيما إنكار ابن عباس رضي اللَّه عنهما لمعاوية ، واحتجاجه صحابه بقوله :"ليس شيء من البيت مهجورا ".
    قال الشافعي رحمه اللَّه ـ في الجواب عن هذه الحجة ـ :"بأنا لم ندع استلامهما هجراً للبيت، وكيف يهجره وهو يطوف به ؟ ولكنا نتبع السنة فعلا أو تركاً ، ولو كان ترك استلامهما هجراً لهما ، لكان ترك استلام ما بين الأركان هجراً لها ، ولا قائل به" ا.هـ"(12).
    والحكمة من عدم مشروعية استلام الركن الشمالي والغربي ، لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم عليه الصلاة السلام . فقد ثبت في "الصحيحين " عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما قال :" ما أُرى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللًذين يليان الحِجر ، إلا أن البيت لم يُتمم على قواعد إبراهيم ""(13).
    قال النووي رحمه اللَّه : "قال القاضي أبو الطيب : أجمعت أئمة الأمصار والفقهاء على أنهما لا يستلمان ، قال : وإنما كان فيه خلاف لبعض الصحابة والتابعين ، وانقرض الخلاف ، وأجمعوا على أنهما لا يستلمان "ا.هـ.
    والاستلام للركن اليماني : هو إمرار اليد اليمنى عليه من غير تكبير، فإن شق استلامه لم يشر إليه ولم يكبر ، لعدم ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
    قال العلماء :" ويسن أن يستلم الحجر والركن اليماني كل مرة، لقول ابن عمر رضي اللَّه عنهما :"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طَوْفه ". قال نافع : وكان عبد اللَّه بن عمر يفعله "(14). أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح"(15).

    3- وفي " صحيح مسلم "عن وبرة بن عبد الرحمن قال:" كنت جالساً عند ابن عمر ، فجاءه رجل فقال : أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف ؟ فقال : نعم ، قال :فإن ابن عباس يقول : لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف ؟ فقال ابن عمر : فقد حجّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف ، فبِقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحق أن تأخذ أو بقول ابن عباس إن كنت صادقاً".
    فهذا الذي قاله ابن عمر رضي اللَّه عنهما فيه إثبات طواف القدوم للحاج إذا كان مفرداً أو قارناً ، وهو مشروع قبل الوقوف بعرفة ، وهو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم .
    قال شيخنا ابن عثيمين رحمه اللَّه : "وأما قول ابن عباس فيحمل على أنه أراد بذلك من قدم مكة متأخراً ، وقد دخل وقت الوقوف ، فحينئذ نقول :محافظة على الوقوف أولى من دخول مكة ، وطوافه وسعيه، لأن الوقت الآن وقت للوقوف "ا.هـ"(16).

    4- وأخرج البخاري عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهم قال : " كتب عبد الملك إلى الحجاج : أن لا تخالف ابن عمر في الحج ، فجاء ابن عمر ـ وأنا معه ـ يوم عرفه حين زالت الشمس ، فصاح عند سُرادق الحجاج ، فخرج وعليه ملحفة معصفرة ، فقال : مالك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال :الرواح إن كنت تريد السنة ، قال: هذه الساعة ؟ قال نعم ، قال:فأنظرني حتى أُفيض على رأسي ، فنزل حتى خرج الحجاج ، فسار بيني وبين أبي ، فقلت :إن كنت تريد السنة فاقصر الخطبة ، وعجِّل الوقوف ، فجعل ينظر إلى عبد اللَّه ، فلما رأى عبد اللَّه ذلك ، قال: صدق".
    وفي رواية :"أن الحجاج عام نزل بابن الزبير ، سأل عبد اللَّه كيف تصنع في الموقف يوم عرفة ؟ فقال سالم : إن كنت تريد السنة ، فهجِّر بالصلاة يوم عرفة ، فقال عبداللَّه : صدق ، إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة ، فقلت لسالم : أفعل ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ فقال سالم : وهل يتبعون بذلك إلا سنته".
    ففي هذا الحديث دليل على شدة متابعة الصحابة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث أخبر سالم الحجاج بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله في عرفة ، فقال له: " إن كنت تريد السنة فاقصر الخطبة ، وعجَّل الوقوف "وتصديق ابن عمر له.
    وفي الحديث دليل على احترام العلماء للأمراء ،وعدم مخالفتهم ،وكذا رجوع الأمراء للعلماء وسؤالهم .
    الوقفة الثانية: استحباب الغسل عند الإحرام :
    لقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس لما ولدت :"اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي ".
    وفي "صحيح مسلم " عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : نَفِست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة ، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبا بكر يأمرها أن تغتسل وتُهلّ ".
    وفيه أيضاً عن جابر رضي اللَّه عنه قال : أقبلنا مهلين مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بحج مفرد، وأقبلت عائشة رضي اللَّه عنها بعمرة ، حتى إذا كنا بسرف عَركت، وفيه:فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن هذا أمر كتبه اللَّه على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج""(17).
    وقد روى الترمذي عن خارجة بن زيد ، عن أبيه ، "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرَّد لإهلاله واغتسل " .
    قال الترمذي :" هذا حديث حسن غريب " .
    قلت : الحديث إسناده ضعيف ، وله شواهد متعددة بها يتقوى"(18).
    وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال :"من السنة أن يغتسل إذا أراد أن يحرم ، وإذا أراد أن يدخل مكة " رواه الدارقطني والبيهقي والحاكم .
    ففي هذه الأحاديث : دليل على استحباب الغسل عند الإحرام للرجل والمرأة سواءً كانت طاهراً ، أو حائضاً أو نفساء .
    قال الإمام أحمد :"ويغتسل الرجل والمرأة إذا أرادا أن يهلا ، ويغتسلان إذا أرادا أن يدخلا الحرم ، فإن لم يفعلا فلا بأس ".
    وقال في رواية أخرى :"والحائض إذا بلغت الميقات ، فتغتسل وتصنع ما يصنع الحاج غير أنها لا تطوف بالبيت ، ولا بالصفا والمروة ، ولا تدخل المسجد أعجب إليَّ.." "(19).
    والمراد بالاغتسال كما يغتسل للجنابة ، فيتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم يغسل رأسه حتى يرويه بالماء، ثم يفيض الماء على سائر بدنه ، وهذه صفة الغسل الكامل ، وهي أفضل .
    قال النووي رحمه اللَّه :" اتفق العلماء على أنه يستحب الغسل عند إرادة الإحرام بحج أو عمرة أو بهما، سواء كان إحرامه من الميقات الشرعي ، أو غيره، ولا يجب هذا الغسل ، وإنما هو سنه متأكدة يكره تركها ، نص عليه الشافعي في الأم ، واتفق عليه الأصحاب " .
    ثم ذكر استحباب الاغتسال للحائض والنفساء ، قال :"ويغتسلان بنية غسل الإحرام ، كما ينوي غيرهما ""(20) .
    وقد جعل ابن حزم رحمه اللَّه الغسل عند الإحرام للنفساء فرضاً واجباً ، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء بنت عميس به "(21).
    قلت : الجمهور على استحبابه ، وهو الصواب .
  • فإن لم يجد الماء ،فقد استحب بعض أهل العلم أن يتيمم ،لأنه غسل مشروع فناب التيمم عنه كالواجب ، قاله القاضي أبو يعلى.
    والصحيح أنه لا يستحب ، قال ابن قدامه : " لأنه غسل مسنون فلم يستحب التيمم عند عدمه ، كغسل الجمعة ، وما ذكره ـ يعني القاضي ـ منتقض بغسل الجمعة ونحوه من الأغسال المسنونة ، والفرق بين الواجب والمسنون أن الواجب يراد لإباحة الصلاة ، والتيمم يقوم مقامه في ذلك ، والمسنون يراد للتنظيف وقطع الرائحة ، والتيمم لا يحصِّل هذا ، بل يزيد شعثاً وتغييراً "(22).
    قال العلماء : " ويسن للمحرم تنظفٌ بأخذ شعر وظفر وقطع رائحة كريهة، لئلا يحتاج إليه في إحرامه فلا يتمكن منه ، وتطيب في بدنه بمسك أو بخور .." (23).
    قلت : أما التنظُّف بأخذ الشعر والظفر ، فلم يرد فيه دليل خاص عن النبي صلى الله عليه وسلم ، اللَّهم إلا أن يقال إن ذلك داخل في جملة اغتساله .
    ثم يقال :إذا لم يكن محتاجاً لأخذ شعر وظفر ، فلا يسن له حينئذٍ أخذ شيء منها ،أما إذا كان محتاجاً فلا بأس .
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه : " وإن احتاج إلي التنظيف ، كتقليم الأظفار ، ونتف الإبط، وحلق العانة ، ونحو ذلك، فعل ذلك ، وهذا ليس من خصائص الإحرام ، وكذلك لم يكن له ذكر فيما نقله الصحابة ، لكنه مشروع بحسب الحاجة ، وهكذا يشرع لمصلي الجمعة والعيد على هذا الوجه " (24).
    وأما التطيُّب ، فقد ثبت في السنة :
    ففي "الصحيحين " عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : " كنت أطيب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله بالماء قبل أن يطوف بالبيت ".
    وقالت : " كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو محرم".
    وفي رواية لمسلم : " كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد ، ثم أرى وبيص الدُّهن في رأسه ولحيته بعد ذلك " .
    قال النووي رحمه اللَّه : " وفيه دلاله على استحباب الطيب عند إرادة الإحرام ، وأنه لا بأس باستدامته بعد الإحرام ، وإنما يحرم ابتداؤه في الإحرام "(25).
    وقولها : " كنت أطَّيب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " المراد تطييب بدنه ، لا ثيابه، لقولها: " ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته " .
    وأما ثياب الإحرام فينهى عن تطييبها ، لما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما مرفوعاً : ".. ولا يلبس ثوباً مسَّه زعفران أو ورس" .
    فائدة : قال ابن مفلح رحمه اللَّه : " ويتوجّه أنه يستحب أن يستقبل القبلة عند إحرامه ، صح عن ابن عمر " (26).
    قلت : ثبت في"صحيح البخاري " (27)عن نافع قال : " كان ابن عمر رضي اللَّه عنهما إذا صلى الغداة بذي الحليفة ، أمر براحلته فرحلت، فإذا استوت به استقبل القبلة ، ثم يلبي .." وبوب عليه البخاري : باب الإهلال مستقبل القبلة .
    الوقفة الثالثة :إظهاره صلى الله عليه وسلم توحيد اللَّه عز وجل في شعائر الحج
    1- فمن ذلك : التلبية ، فقد قال جابر رضي اللَّه عنه : " فأهل بالتوحيد : لبيك اللَّهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة ، لك والملك لا شريك لك " .
    أطلق جابر رضي اللَّه عنه على هذه التلبية بأنها توحيد ، وهذا حق فإنها تشتمل على أنواع التوحيد كلها .
    ففي قوله "والملك" إثبات توحيد الربوبية ، وإثبات توحيد الربوبية مستلزم لإثبات الألوهية .
    وفي قوله : " لبيك لا شريك لك " إثبات توحيد الألوهية ، لا شريك له عز وجل في ملكه ، ولا شريك له في عبادته ، فنفي الشريك عنه يتضمن إفراده بالعبادة .
    وفي قوله : " إن الحمد والنعمة" إثبات توحيد الأسماء والصفات فالحمد : وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم .
    والنعمة : أي الإنعام ، فالنعمة للَّه ، وهى من صفات الأفعال .
    وفي قوله : " لا شريك لك " إثبات الأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل (28).
    قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله : " ولهذا قال جابر رضي الله عنه: فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد ، لأن قول الملبي : لبيك اللهم لبيك ، التزام لعبودية ربه ، وتكرير لهذا الالتزام بطمأنينة نفس وانشراح صدر ، ثم إثبات جميع المحامد وأنواع الثناء والملك العظيم لله تعالى ، ونفي الشريك عنه في ألوهيته وربوبيته وحمده وملكه ، وهذا حقيقة التوحيد..." (29) .
    وقد روى مسلم عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال :كان المشركون يقولون : لبيك لا شريك لك ، قال: فيقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " ويلكم قدٍ قدٍ " ، فيقولون : إلا شريكاٌ هو لك ، تملكه وما ملك ، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت .
    وقوله " قدٍ قدٍ" يعني يكفي يكفي ، اقتصروا على هذا ، لكنهم يزيدون على هذا قولهم " إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ".
    قال القرطبي رحمه اللَّه : قوله : " قدٍ قدٍ" أي : حسبكم التوحيد ، ينهاهم عن الشريك " (30).
    فاللَّه عز وجل هو المعبود ، وهو المرجو ، وهو المدعو وحده لا إله إلا هو في ربوبيته ، وألوهيته وأسمائه وصفاته ، وهو الملجأ والمعاذ (وإذا مسكم الضر فإليه تجأرون ) ، من الذي دعاه فردَّه ! ، ومن الذي لجأ إليه وتضرع إليه وانكسر بين يديه ولم يدفع الضراء والبأساء عنه ! فسبحانه من إله ما أحكمه وأحلمه وألطفه بعباده .
    ومن كانت هذه أوصافه فلا يجوز صرف نوع من أنواع العبادة لغيره. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اللَّه : " من صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير اللَّه فهو مشرك كافر "(31).
    * والتلبية معناها : الإجابة للَّه ، والإقامة على طاعته ، فكأنه يقول : إجابه لك بعد إجابه وإقامة على طاعتك ، وفسَّرها بعضهم بمضمونها : "أنا مقيم على طاعتك وإجابة أمرك "(32).
    وقد أمر اللَّه عز وجل عبده وخليله إبراهيم أن ينادي في الناس بالحج ، قال تعالى :( وأذِّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعل كل ضامر يأتين من كل فج عميق ) .آية رقم (27) سورة الحج .
    روى ابن الجوزي بسنده عن مجاهد رحمه اللَّه قال : " لما قيل لإبراهيم عليه السلام : (وأَذِّن في الناس بالحج ) ، قال : يا رب كيف أقول ؟ قال : قل: يا أيها الناس أجيبوا ربكم ، فصعد الجبل فنادى : أيها الناس أجيبوا ربكم ، فأجابوه: لبيك اللَّهم لبيك ، فكان هذا أول التلبية"(33).
    والأفضل لزوم هذه التلبية ، لأنها تلبية النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن زاد عليها ما ورد عن الصحابة فلا بأس .
    ولذا قال جابر رضي اللَّه عنه : " وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ، فلم يرد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئاً ، ولزم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تلبيته " .
    وروى أبو داود وابن ماجه عنه قال : " والناس يزيدون ذا المعارج ونحوه من الكلام ، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلا يقول لهم شيئاً " .
    وقد روى مسلم عن نافع قال : " فكان عبد اللَّه بن عمر يزيد فيها لبيك لبيك ، لبيك وسعديك والخير بيديك ، والرغباء اليك والعمل " .
    وفي رواية له : أن عمر رضي اللَّه عنه كان يقولها بعد التلبية "(34).
    وعن أنس أنه كان يزيد : " لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً " ذكره النووي"(35).
    قال الشافعي رحمه اللَّه : " ولا أضيق على أحد في مثل ما قال ابن عمر ، ولا غيره من تعظيم اللَّه ودعائه مع التلبية ، غير أن الاختيار عندي أنه يفرد ما روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ""(36).
    وقال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه اللَّه : " وإن زاد على ذلك... جاز كما كان الصحابة يزيدون ، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسمعهم ، فلم ينههم""(37).
    * ويستحب للرجل رفع صوته بالتلبية ، لما روى البخاري عن أنس رضي اللَّه عنه قال : " وسمعتهم ـ يعنى الصحابة ـ يصرخون بها صراخا""(38).
    وروى الخمسة عن خلاد بن السائب ، عن أبيه رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال : " أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال " إسناده جيد .
    وروى ابن أبي شيبة عن حميد بن بكر قال : " كنت مع ابن عمر فلبى حتى أسمع ما بين الجبلين ". قال ابن حجر : " إسناده صحيح" (39).
    وسيأتي حديث : "أفضل الحج العج والثج" .
    أما المرأة فتخفيها بقدر ما تسمع رفيقتها ، لأنه يخشى عليها في رفع صوتها من الفتنة .
    قال الفقهاء رحمهم اللَّه :" ويسن أن يذكر نُسُكه فيها "(40).
    بمعنى أنه إذا كان قد أحرم بعمرة فيقول في أثناء تلبيته بين فترة وأخرى:لبيك اللَّهم عمرة ، وإن كان قد أحرم بحج :لبيك اللَّهم حجاً ، وإن كان قد أحرم بحج وعمرة : لبيك اللَّهم عمرة وحجا .
  • وتتأكد التلبية في مواطن : روى ابن أبي شيبة من طريق خيثمة قال: "كانوا يستحبون التلبية عند ست : دبر الصلاة ، وإذا استقلت بالرجل دابته ، وإذا صعد شرفاً ، أو هبط وادياً ، أو لقي بعضهم بعضاً". ولم يذكر السادسة(41).
    وكذا إذا سمع ملبياً ، أو أقبل ليل أو نهار ، أو فعل ما نُهي عنه(42).
    قال النووي رحمه اللَّه : " ويستحب أن يكرر التلبية كل مرة ثلاث مرات فأكثر ، ويواليها ولا يقطعها بكلام ، فإن سُلِّم عليه رد السلام باللفظ ، ويكره السلام عليه في هذه الحال ، وإذا لبى صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسأل اللَّه تعالى ما شاء لنفسه ، ولمن أحبه وللمسلمين ، وأفضله سؤال الرضوان والجنة ، والاستعاذة من النار "(43).
    قلت : ورد في ذلك حديث رواه الشافعي ، والدارقطني عن خزيمة بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من التلبية في حج أو عمرة سأل اللَّه رضوانه والجنة ، واستعاذ برحمته من النار ".
    لكن إسناده ضعيف (44).
    2- تكبيره اللَّه عز وجل عند استلام الحجر ، وكذا عند الإشارة إليه كما تقدم ، وهذا يدل على أن استلامه من شعائر اللَّه ، وأن المسلم يفعله اقتداء برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه حينما استلم الحجر وقبّله : " واللَّه إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ".
    وحينئذٍ : فاستلام الحجر الأسود والركن اليماني من شعائر اللَّه ، وعليه فلا يجوز التمسح بشيء من الأبنية والأحجار والأضرحة وغيرها ، لأن ذلك مخالف لشرع اللَّه ، ولأنها ليست من شعائر اللَّه .
    3- قراءته سورتي الإخلاص في ركعتي الطواف ، وذلك لما تشتمل عيه هاتان السورتان من توحيد الربوبية ، وتوحيد الألُوهية .
    ففي السورة الأولى : البراءة من دين المشركين ، وإفراد اللَّه بالعبادة.
    وفي السورة الثانية : إفراد اللَّه بصفات الكمال ، وتنزيهه عن صفات النقص.
    وبقراءة المسلم لهما اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، يعرف ربه ويخلص له العبادة ، ويتبرأ من عبادة ما سواه .
    4ـ توحيده اللَّه عز وجل وتكبيره وتهليله على الصفا . قال جابر رضي اللَّه عنه " فلما دنا من الصفا قرأ : (إن الصفا والمروة من شعائر اللَّه) أبدأ بما بدأ اللَّه به،فبدأ بالصفا فرقي عليه ، حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة ، فوحَّد اللَّه وكبَّره، وقال: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير ، لا إله إلا اللَّه وحده، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ".
    وذلك لأن الصفا والمروة من شعائر اللَّه ، فليوطن نفسه على فعل هذه العبادة بامتثال أمر اللَّه ، والانقياد له ، ونفي الشريك عنه .
    ولذا فإن الساعي بينهما ، يمتثل أمر اللَّه عز وجل ، ويقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ويظهر حال سعيه ذله وخضوعه وفقره لربه عز وجل ، وليعلم بإعلانه لهذا الذكر على الصفا والمروة أنه لا يجوز السعي في غيرهما ، لأنه ليس عبادة للَّه ، ثم إن صرف هذه العبادة لغير اللَّه شرك (45).
    5- تكبيره اللَّه عز وجل وتوحيده عند المشعر الحرام . قال جابر رضي اللَّه عنه : " ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة ، فدعاه وكبَّره وهللَّه ووحَّده ، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً".
    وهذا إظهار بيِّن منه صلوات اللَّه وسلامه عليه لتوحيد اللَّه عز وجل وتعظيمه، وأنه إنما وقف في هذا الموقف امتثالاً لأمر اللَّه تعالى في قوله: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا اللَّه عند المشعر الحرام )الآية (198) من سورة البقرة .
    6- تكبيره اللَّه عز وجل مع كل حصاة يرميها .
    قال جابر رضي اللَّه عنه : " ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة ، فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها ".
    وكذلك فعل عند رمي الجمرات الثلاث أيام التشريق ، فروى البخاري عن سالم بن عبد اللَّه ، عن أبيه عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمرة التي يلي مسجد منى يرميها بسبع حصيات ، يكبر كلما رمى بحصاة ،....ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات ، يكبر كلما رمى بحصاة ....ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات ، يكبر عند كل حصاة ..".
    قال شيخنا ـ قدس اللَّه روحه ـ : " وبهذا تُعرف الحكمة من رمي الجمرات ،... فالحكمة إقامة ذكر اللَّه ، وتعظيم اللَّه عز وجل ، وتمام التعبد، لأن كون الإنسان يأخذ حصى ويضرب به هذا المكان يدل على تمام انقياده ، إذ أن النفوس لا تنقاد إلى شيء إلا بعد أن تعرف المعنى الذي من أجله شرع ، وأما ما يذكر من أن الرمي هنا لإغاظة الشيطان ، فإن هذا لا أصل له" (46).
    7ـ ذبح الهدي تقرباً إلى اللَّه عز وجل ، وذكر اسمه تعالى عليها .
    امتثالاً لقوله تعالى : (فاذكروا اسم اللَّه عليها صوافَّ ) آية (36) من سورة الحج ، والذبح عبادة من أجل العبادات ، فلا يجوز صرفها لغير اللَّه، قال اللَّه تعالى : (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للَّه رب العالمين، لا شريك له ويذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) آية (162ـ 163) الأنعام .
    قال مجاهد : " النسك : الذبح في الحج والعمرة ".
    وقال سعيد بن جبير : (ونسكي ): ذبحي (47).
    وبوَّب الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب "التوحيد" على هذه الآية : باب ما جاء في الذبح لغير اللَّه (48).
    قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه اللَّه : " ووجه مطابقة الآية للترجمة : أن اللَّه تعالى تعبّد عباده ، بأن يتقربوا إليه بالنسك ، كما تعبَّدهم بالصلاة ، وغيرها من أنواع العبادة ،....
    ثم قال : فإذا تقرّب إلى غير اللَّه بالذبح ، أو غيره من أنواع العبادة فقد جعل للَّه شريكاً في عبادته، وهو ظاهر في قوله :(لا شريك له)...(49).
    وقال تعالى : ( فصل لربك وانحر ) آية (2) الكوثر .
    قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه اللَّه : " أمره اللَّه أن يجمع بين هاتين العبادتين ، وهما الصلاة والنسك ، الدالتان على القرب والتواضع ، والافتقار وحسن الظن ، وقوة اليقين ، وطمأنينة القلب إلى اللَّه وإلى عِدته.." (50).
    وقد ثبت في "صحيح مسلم " عن علي رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " لعن اللَّه من ذبح لغير اللَّه"(51).
    ولتعظيم الذبح ، وكونه عبادة للَّه ، يقول المسلم عند ذبحه : " بسم اللَّه واللَّه أكبر".
    قال اللَّه عز وجل : (والبدن جعلناها لكم من شعائر اللَّه لكم فيها خير فاذكروا اسم اللَّه عليها صواف ، فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ، كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ، لن ينال اللَّه لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ، كذلك سخرها لكم لتكبروا اللَّه على ما هداكم وبشر المحسنين ) الآيات (36ـ 37) من سورة الحج .

    (1) -"شرح صحيح مسلم "(8/170).
    (2-"المفهم "(3/399).
    (3) -البخاري (1597)،ومسلم (1270/251).
    (4)-"صحيح مسلم "رقم (1270/250).
    (5)-"مثير العزم الساكن" (1/370).
    (6) -"شرح صحيح" مسلم (9/16)
    (7) -"سبل السلام" (2/418) .
    (8) -صحيح مسلم (1268)،(1272).
    (9) -"صحيح البخاري" (1613).
    (10) -"صحيح البخاري" (1613).
    (11)-"مصنف عبد الرزاق "(8894)، وأحمد في "مسائله " رواية أبي داود ص (146)، والبيهقي (5/79) من طرق عن نافع عنه.قال شيخ الإسلام في"شرح العمدة" كتاب المناسك(2/432) "رواه الطبراني بإسناد جيد".وقال ابن حجر في "التلخيص " (2/247) "وسنده صحيح" .
    (12)-"زاد المعاد "(2/227) ،فتح الباري (3/474).
    (13)-"صحيح البخاري " (1583) ، ومسلم (1333).
    (14)- الروض "المربع " بحاشية العنقري (1/502) .
    (15)- سنن أبي أبو داود (2/176)ح(1876)، والنسائي (5/231)، وأحمد (2/18، 115) من طريق عبد العزيز بن أبي روّاد ، عن نافع، عن ابن عمر. ولفظ النسائي :"في كل طواف".
    (16) - من تعليقه على "صحيح مسلم " (8/217).
    (17)-" صحيح مسلم " ( 1209) و(1213)
    (18)-"سنن الترمذي" (2/181) ح (830) من طريق عمر بن يعقوب المدني ، عن ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن خارجه . وعبد الله بن يعقوب مجهول الحال ، كما قال ابن حجر في " التقريب " ص(559) .
    (19) -"شرح العمدة "لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ كتاب المناسك (1/400).
    (20)- "المجموع "(7/212ـ213)
    (21) -"المحلي "(7/82) .
    (22) -"المغني" (5/76) .
    (23)-"الروض المربع " بحاشية العنقري (1/467) .
    (24) -"مجموع الفتاوي " (26/109) .
    (25)- " شرح صحيح مسلم" (8/98) .
    (26)- "الفروع "(3/296) .
    (27) -برقم (1553) .
    (28)- بتصرف من "الشرح الممتع " (8/124ـ 125).
    (29)- "المجموعه الكاملة لمؤلفات الشيخ" ـ قسم الفقه (2/474).
    (30)- " المفهم "(3/269).
    (31)- "الأصول الثلاثة "ـ ضمن مجموع مؤلفات الشيخ (1/188)-.
    (32)-" الروض المربع " بحاشية العنقري (1/471) .
    (33) -"مثير العزم الساكن" (1/204) رقم (93).
    (34)- " صحيح مسلم " برقم (1184) .
    (35)- المرجع السابق .
    (36)-الأم (2/156).
    (37)-مجموع الفتاوى (26/115).
    (38)- فتح الباري (3/408).
    (39)-فتح الباري (3/408).
    (40)-"الروض والمربع " بحاشية العنقري (1/472).
    (41)-"نصب الراية" (3/33).
    (42)-"المغني" (5/106) .
    (43)-"شرح صحيح مسلم" (8/91).
    (44)-لأن في إسناده : صالح بن محمد بن زائدة ، وهو ضعيف ، كما في " التقريب" ص (448) .
    (45) "الخطب المنبرية للفوزان " (4/308) .
    (46) "الشرح الممتع "(7/357) .
    وقد ذكر ابن الجوزي في " مثير العزم الساكن " (1/284) ما ورد في أصل رمي الجمرات ، وهو أثر ابن عباس رضي الله عنهما ، أخرجه البيهقي (5/153) ، والحاكم (1/466) ، وأشار إليه الشنقيطي رحمه الله في "تفسيره" ـ كما في "خالص الجمان" ص (222) .
    (47) " تفسير الطبري " (12/284) .
    (48) "كتاب التوحيد" ـ ضمن مجموع مؤلفات الشيخ ـ (35) .
    (49) "فتح المجيد" (1/266).
    (50) مجموع الفتاوى (16/531).
    (51) " صحيح مسلم " (1978) .

    |1|2|3|

  • إرسال إلى صديق طباعة أضف تعليق حفظ

    تعليقات الفيسبوك

    الآراء المنشورة لاتعبر عن رأي موقع الإسلام اليوم أو القائمين عليه.
    علما بأن الموقع ينتهج طريقة "المراجعة بعد النشر" فيما يخص تعليقات الفيسبوك ، ويمكن إزالتها في حال الإبلاغ عنها من قبل المستخدمين من هنا .
    مساحة التعليق تتسع لمناقشة الأفكار في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
    • - الهجوم على أشخاص أو هيئات.
    • - يحتوي كلمة لا تليق.
    • - الخروج عن مناقشة فكرة المقال تحديداً.

    تعليقات الإسلام اليوم