بسم الله الرحمن الرحيم..
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيراً.
الابنة الكريمة يسرنا أن نرحب بكِ في موقعكِ الإسلام اليوم، فأهلاً وسهلاً ومرحبًا بكِ، وكم يسعدنا اتصالكِ بنا في أي وقت وفي أي موضوع، ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يبارك فيكِ وأن يثبتكِ على الحق، وأن يهديكِ صراطه المستقيم، وأن يجعلكِ بارة بوالديكِ، وأن يمنَّ عليكِ بزوج صالح يكون عونًا لكِ على طاعة الله ورضاه.
يمر الكثير بمرحلة طفولة مؤلمة ومزعجة تلاحقهم طوال سنوات عمرهم، تحرمهم من الشعور بمتعة الحياة، يحاولون نسيانها، أو الهروب منها، ولكن دون جدوى. فعندما يتعرض الطفل لمعاملة قاسية ومؤلمة تفوق قدرته النفسية أو الجسمية أو العقلية، فإنه لا يستطيع استيعاب أو تخزين هذه الأحداث في عقله الباطن بشكل صحيح أو سليم، فتظل هذه الذكريات عالقة ومكبوتة لا تختفي ولا تزول، ولكن تعمل بشكل خفي محدثة الكثير من أعراض التوتر والقلق والألم (فأنا أبكي أمام الجميع وفي كل مكان وفي العمل وفي المواصلات العامة)، أو ربما تشكل تلك الذكريات كابوسا يلاحق الفرد وينغص عليه معيشته. هذا ما حصل معك -ابنتي الفاضلة- فقد مررتِ في طفولتكِ بفترات مؤلمة وقاسية لم تستطيعي استيعابها أو فهمها. فأنت لم تعرفي سبب لتصرفات أبيك القاسية معكِ، ولماذا التفرقة في المعاملة بينك وبين إخوانك الذكور، وما زاد الأمر سوءًا أن الأم هي الأخرى كانت جافة في التعامل ومفتقدة للحنان! أسئلة ليس لها إجابة تجول في خاطر طفلة صغيرة ليس لها ذنب سوى أنها تعيش في بيئة لها موروثات ومعتقدات (أسرة محافظة لها أصول وأعراف) تميز الذكر عن الأنثى، ويكون الأب فيها هو الآمر الناهي، صاحب اليد الطولي، والعصي الغليظة، العنف لغة التفاهم الوحيدة.. هذه معتقداتهم وهكذا تربوا يرثون هذا الفهم وإن لم يكونوا يؤمنون به، بل إنهم ربما يرفضونه من أعماقهم، ولكن شاءوا أم أبوا عليهم تحقيق هذا الإرث واقعا حيا في أسرهم.
ابنتي الحبيبة.. هذا قضاء الله وقدركِ، وهذا ابتلاؤكِ، وما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، والحياة ميدان ابتلاء، وقد طُبعت على الكدر (لقد خلقنا الإنسان في كبد)، وكم من بلاء وكرب طالت مدته وتألم صاحبه، ولكن بالصبر وكثرة الدعاء تبدل إلى فرح وسرور، وكم من ضيق وكرب تحول إلى سعة وفرج، إذًا هذه الحياة تتقلب بين مد وجزر، بين صحة وسقم، بين فرح وحزن، بين غنى وفقر، لذا فالمؤمن مطالب فيها بالصبر حين إدبارها والشكر حين إقبالها. لن أطلب منكِ نسيان ذكرياتك المؤلمة، فالماضي لا ينسى، ولكن أطلب النظر إلى الأحداث الإيجابية وتنميتها، فبالرغم مما ذكرتِ من قسوة المعاملة، وكثرة الممنوعات، إلا أنني أجد بحبوحة من الحرية لم تحظَ بها غيرك ممن عاشت في مثل بيئتك، فإذا كان ضمن الممنوعات (ممنوع الخروج إلا للدراسة أو العمل) فالكثيرات غيرك مُنعن البتة من التعليم والعمل، وحُرمن الاندماج في المجتمع ، وعشن مهمشات كأن لا وجود لهن. فأنت بفضل الله ورغم المعاناة قد استطعتِ تحقيق النجاح والتفوق، وهذا دليل على أنك قادرة وبتفوق علي تخطي الأزمات، والزمن هنا علاج للكثير من المعاناة (علاقتي بأهلي مستقرة الآن)، وهذه فرصة طيبة لإعادة بناء علاقة إيجابية مع أبيك تحاولين فيها من خلال جلسات الحوار الهادف والتفاهم أن تبني معه جسورًا للتقارب والتواصل، وما سيساعدك على ذلك كبر عمره الآن وضعف قوته وحاجته إليكِ، فمهما كانت قسوته وغلظته، فإن الله تعالى قد أمر ببرِّه، والتلطف في معاملته، قال تعالى: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً" [الإسراء:23]. فوالداكِ هما طريقك إلى الجنة، وبرهما من أوجب الواجبات، ولا يسقط حقهما في الإحسان والبر قسوتهما معك..
ابنتي المؤمنة.. انظري للحياة نظرة إيجابية، فأنتِ قد حققتِ الكثير من النجاحات والتي عجز عن تحقيقها أصحاب الظروف الميسرة، فلا تجعلي الماضي يعوق مواصلة تفوقكِ ونجاحكِ، ولكن انظري دائما أمامك ولا تلتفتي خلفكِ، وامضي في حياتك وانهضي بها، مضى نصف العمر، فلا تضيعي الباقي بمزيد من الأحزان، وكلما ضاقت عليكِ الدنيا انظري إلى السماء وقولي: يا رب فرج همي وفك كربي وأنر بصري وبصيرتي. لقد حان الوقت للتفكير في الزواج، اتخذي القرار الصحيح بعد الاستشارة والاستخارة، واعلمي أن الزواج سكن ورحمة ومودة، كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى، تجدين فيه السكينة والاطمئنان، وليس كما ذكرتِ (فالزواج بالنسبة لي شيء مفزع ومخيف).. انطلقي في حياتك سعيدة بها وفخورة بنفسكِ، كما أود منكِ عدم مصارحة أحد بما حدث مهما كان فهذا ليس في صالحك.
ابنتي الكريمة.. قد تحتاجين -بعد الله سبحانه وتعالى- إلى طلب المساعدة من طبيب نفسي؛ ليصف لكِ ما يراه مناسبًا من عقارات تعيد الثبات لجهازك العصبي، وتقلل حساسيته للمؤثرات الخارجية (تنتابني حالات بكاء هستيري تستمر لأيام وليال متواصلة)، ولتعلمي -حبيبتي- أن المرض النفسي لا يعني أبدا قلة الإيمان؛ ولكنه مرض كسائر الأمراض قد يصيب الإنسان المتدين، لكنه إذا ما أصابه فإن قدرته على المقاومة والشفاء منه تكون أكبر بكثير من قدرة الإنسان العادي، فتفاءلي خيرا، وابحثي عن الطبيب الثقة، ويفضل أن تكون طبيبة حتى تكوني أكثر ارتياحا لها خلال الجلسات النفسية..
وفي الختام.. لا تترددي، وابدئي من اليوم مع نفسك أن تكوني كل يوم أفضل، فستحققين تقدما ورضا عن نفسك وراحة نفسية رائعة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتب لك السعادة في الدارين، ونحن في انتظار أخبارك لنطمئن عليك، فواصلينا بجديدكِ.