(1)
صديقي "عبد الرحمن الهذلول" قارئ ومثقف ، وصاحب قلم جميل ولديه تجربة كتابية جميلة لكنها قليلة ، لاحظ صديقي أن كلامه لا يُطربُ كثيراً عندما يطرحه في شبكات التواصل و في مجموعات المحادثات " الواتساب".
قرر أن يجرب طريقة أخرى ، وقد نجح فيها نجاحاً كبيراً ، ولا زال إلى اليوم يمارس هذه الطريقة! الأمر سهل جداً ، لقد قرر صاحبنا أن يكتب ما يدور بخاطره ولكن باللغة الإنجليزية وليس العربية! ثم ينشرها في ذات النوافذ التي كان يبث فيها رسائله العربية ، وكانت النتيجة مذهلة بحق ، تعليقات كثيرة وعديدة تنهال من كل صوب .. جميل .. رائع .. عظيم .. من أي كتاب ؟ من هو صاحب هذه المقولة ؟ إبداع حقيقي! الله الله ، وهلم جراً ..
(2)
كثيراً ما أخوض في نقاشات عديدة وأحياناً بشكلٍ يومي ، في قضايا مختلفة ، كنتُ ألاحظ تمسك الطرف الآخر بوجهة نظره ومحاربته لأجلها ، حتى وإن قدمت له الأدلة النقلية والعقلية في ذلك ، فهو ثابتٌ في مكانه وعلى رأيه لا يتزحزح ، لكن هذا الثبات يهوي تماماً ويتحول إلى تسليم واستسلام وتراجع عندما أستحضر مقولة لكاتبٍ غربي ، حتى إني أصبحتُ أعتني باستحضار المقولات الغربية وحفظها لاستحضارها إذا ما حمي وطيس النقاش مع هذه الفئة – المثقفة - من الناس!
أذكر في مراتٍ عديدة ، كان النقاش يجري حول ممارسة ما في مجتمعنا العربي ، فكانت الخصومة على أشدها ، والألسن كالسيوف في معركة طاحنة ، ثم انجلى كل هذا ، وانتهى النقاش لأنني فقط قلت : في أمريكا يفعلونها!
الغريب أن هؤلاء القوم هم اكثر الناس رفعاً لشعارات تحكيم العقل ، وضرورة النقد ، والحض على الخروج من دائرة القطيع! لكن هذه الدعوات البراقة والتي توحي بعصامية وثقة بالنفس سرعان ما تنكشف في مثل هذه النقاشات ..
والأغرب من هذا أن هذه الفئة من الناس تقف ملياً أمام كتب السنة مثلاً ، وأقوال العلماء وإجماعات الأمة ، وتقلبها ذات اليمين وذات الشمال وتنتقد أي خطأ حتى لو كان مطبعياً! وتصنع من الخطأ الصغير فصولاً من الانتقادات ، وأنت إن رأيت طريقتهم هذه ظننت أنهم نُقاد من الطراز الرفيع ، وكبرت عقولهم في عينيك ، لكن هذه الوقفات الناقدة ، وتلك الأعين الفاحصة تختفي تماماً عندما يكون الكتاب المنظور فيه غربياً ، فهم يقيمون نقاط تفتيش دقيقة عند كل سطرٍ لكتاب إسلامي ، لكنهم يلتهمون كتب الغربي التهاماً وكأنها الحق الذي لا شك فيه ، والصدق الذي لا يعرف الباطل إليه طريقاً!
(3)
تأمل معي هذا المثال الواقعي : في المجتمع الغربي تُنسب الأنثى إلى زوجها بمجرد زواجها منه فهيلاري زوجة كلينتون أصبح اسمها منذ ارتباطها به " هيلاري كلينتون" تمر هذه الظاهرة على أغلبنا مرور الكرام وبلا أدنى استغراب أو استنكار ، لكن ، ماذا لو كانت هذه العادة عادة عربية أو قيمة إسلامية؟
سيتحول الأمر إلى هذا النحو : مقالات استنكار ، مئات التغريدات في ذات الموضوع ، كلمات من هذا القبيل " جعلوها سلعة وكأن لا قيمة لها! حتى اسم عائلتها سلبوه منها! كأنها بضاعة من البضائع وليس بشراً آلخ" لكن لأن العادة غربية فهذا كافٍ في أحسن الأحوال لأن تمر بلا نكير وبوصفها عادة مجتمعية لا تدل على التقليل من مكانة المرأة! وفي بعض الأحوال ربما تعتبر هذه العادة دليلاً على الرقي والتقدم والمدنية! هكذا تكتسبُ الممارساتُ – عند هؤلاء - قيمتها الإيجابية والسلبية بالنظر إلى من يفعلها وليس بالنظر إلى صحتها أو فسادها في ذاته.
ثم هم يدورون مع الحراك الغربي حيث دار ، فما يضعه الغربي على طاولة النقد والامتحان ، يضعونه كذلك حذو القذة بالقذة ، فإن كانت الفكرة غربية سعوا بكل طريق لعولمتها ولو بأطر الأدلة الشرعية أطراً لتتفق معها ، خذ مثالاً على ذلك "الحريات".
وإن كان محل الدراسة شأناً إسلامياً كالحدود الشرعية مثلاً ، سعوا بكل طريق على ترويضها لتتفق مع الرؤية الغربية ، ومالا يتناوله الغربي بنقد فإنهم لا يلتفتون له مطلقاً ، فهم في الحقيقة لا يصدرون عن أنفسهم أو عقولهم أو ما تحتاجه أمتهم ، فموضوع الشذوذ الجنسي عندما كان محرماً عند المُشرع الأمريكي ، كان غير مطروق عند أصحابنا وليس محل أخذٍ ورد ، لكنه بعد التشريع الأمريكي للشذوذ تحولت أنظار المتعاقلين العرب نحو القضية ، وفي قطع يد السارق تجد الهجوم والانتقادات لهذا الحد الشرعي المُحكم لأنه كما يقولون لا يتفق مع التطور الإنساني الحاضر ، لكنهم في المقابل يصمتون عن التعرض لحكم الإعدام بالانتقاد - مع أن هناك حقوقيين في الغرب يقفون ضد حكم الإعدام - إلا أن أصحابنا لا يتعرضون له ، لماذا ؟ ليس لأنه مشروع ومعقول ، وإنما لأن المنظم الأمريكي لا زال يعمل به في بعض الولايات ولم يُجرم دستورياً بعد! فما دام الأمريكي يراه معقولاً ومقبولاً فهو عند هؤلاء معقول مقبول!
(4)
الأغرب من هذا والأقبح .. أن هذه الفئة المتعاقلة من الناس ، يأخذون النظريات والأفكار الغربية كمُسلمات ، مع أنهم نسبيين إذا ما كانت المقولة شرعية أو شرقية!
مالا يعلمه هؤلاء الجاهلون المسبحون بحمد كل فكرة غربية ؛ أن الفكر الغربي نفسه يضع فوق طاولته أمرين مهمين ودائمي الحضور : النسبية والنقد ، فالنسبية تعني أن الفكرة أو الممارسة الغربية الحالية ليست مطلقة ولا قطعية ، والنقد يعني أن ممارسة النقد للأفكار والممارسات والتعديل فيها بالزيادة والحذف والإلغاء والاستبدال أمرٌ ضروري ينبغي أن يكون حاضراً على طول الطريق.
هذا ما يفعله الغربي وما يتعامل به مع فكرته ، لكن مالذي يفعله المتعاقلون من قومنا؟ يلفظون القيم الإسلامية ، ثم يأخذون الفكرة الغربية كمسلمة وحقيقة مطلقة ، ثم يدافعون وينافحون عنها ويقفون بالمرصاد لكل من يتعرض لها بالنقد ، فهم يقدسون أفكار الغربي أكثر من صاحبها نفسه ، فليتهم إذ وجدوا في الفكرة الغربية بغيتهم وغايتهم ؛ أخذوا بطريقته في التعامل معها ، أي بعرضها الدائم على طاولة النقد ، لكنهم لم يفعلوا ذلك ، فصاروا إنجليز أكثر من الإنجليز وغربيين أكثر من الغربيين أو كما يقول الفيلسوف أبو يعرب في مقالٍ تحدث فيه عن أحد هؤلاء فسماه " آرية دونها آرية هتلر"!
(5)
وكثيرٌ من هؤلاء المتعاقلين غير مدركين للأفكار الغربية التي يخضعون لها ، وغير متابعين لمراحلها وانعطافاتها. ولهذا فأنت تُلاحظ أن الفكرة الغربية التي نشأت في الستينات على سبيل المثال وأخذت صيتاً ثم انطفأت أو تطورت أو أزاحتها فكرة جديدة ؛ تجد أنها تصل إلى المتعاقل العربي بعد وفاتها بعقود ، فيأخذها بقوة ويروج لها وينافح عنها ويقاتل لأجلها كل هذا تحت شعارات العقلانية والعلم ، مع أن مُنتج الفكرة قد أعلن نبأ وفاتها منذ وقتٍ طويل!
وصنفٌ من هؤلاء المتعاقلين ، يلمز وينتقص من النتاج العلمي الإسلامي المكتوب في القرون الماضية ، ويبرر لمزه وانتقاصه بأنه لا يناسب زماننا ولا أحوالنا ، لكن هذا اللامز والمنتقص للقديم "الإسلامي" ، يملأ كتاباته وحديثه بالنقولات عن فولتير وهوبز وديكارت وبيكون وأضرابهم من فلاسفة الغرب في القرون الماضية ، وربما أبعد ليستحضر مقالات أرسطو وأفلاطون وغيرهم ، لكنه عند قفزته من التنوير الأوروبي عائداً إلى الفكر اليوناني أو من الفكر اليوناني إلى عصر التنوير لا يحاول عند مروره بالعصر الإسلامي - الواقع بين العصرين – أن يأخذ من نتاجه وإبداعه بل يرفضه أو يسترخصه! لماذا ؟ لأنه قديم! وماذا عن أرسطو ومن معه ، وفلاسفة التنوير ومن معهم؟ أم أن زامر الحي لا يطرب!
(6)
ما هو المعيار عند المتعاقلين ؟
هنا وعند هذا الحد ، يحضر سؤالٌ ملحٌ : ما هو المعيار عند هذا الصنف من الناس؟ وما هو العقل الذي أرهقونا ليل نهار مطالبين بإعماله والثورة على ثقافة القطيع ؟
لماذا تحضر الصرامة النقدية الجاهلة بكل قوتها عند النظر في حديث نبوي أو أثرٍ إسلامي لا يتلاءم مع الفكرة الغربية؟ وتغيب تماماً عند النظر في الأفكار والممارسات الغربية؟ هل المعيار حقيقة هو العقل والمنطق ، أم أنه الغرب نفسه؟ فما يفعله الغرب فهو الحق القطعي وفي حالة كان أقبح من أن يُعد صواباً فإن هؤلاء النقاد يتحولون في لحظة إلى متقبلين لاختلاف الثقافات واستيعاب التصرفات والممارسات مهما كانت تنضح بالمغالطات وتنادي على نفسها بالإبطال.
إن ما يدعيه هؤلاء وما يتزينون به من دعوى تحكيم العقل ، وتقديس العقلية الناقدة التي تستوقف كل ما يمر عليها وتحاكمه ، إنما هي دعاوى يتزينون بها لا غير لكنها عند استعراض منهجهم لا تلبثُ أن تكشف عن عدم وجودها ، وأن الرافعين لشعارات العقل والنقد هم أقل الناس إعمالاً لها! كلما في الأمر أنهم مستقبلون الغرب وسائرون في فلكه ومُعظمون لكل ما يصدر منه ، فهو معيارهم الوحيد ، وبوصلتهم لا تحيد عنه ، لكنهم يزينون قبح تبعيتهم بدعاوى العقلانية والإنفكاك من الجمود والثورة على القطيع!
خاتمة :
هل يعني هذا أن نلفظ كل غربي أو أجنبي ؟ كلا فإن الحكمة ضالةُ المؤمن أنى وجدها فهو أحقُ بها ، والحق والخير مرادان للمؤمن يأخذ بهما سواء كان مصدرهما شرقي أو غربي شمالي أو جنوبي ، فالعبرة بالقيمة ، فمتى كانت القيمة حقاً وخيراً فهي مطلبٌ من مطالب الشريعة ، ومتى كانت القيمة فاسدة حتى وإن فعلها بعضُ المسلمين فهي أجنبيةٌ عن الشريعة؛ لكن ما هو معيار الخير والشر ؟ ومن هو المُستحق لأن يحكُم على تصرفٍ ما بحسنه أو قبحه؟ ليس لأحدٍ حقٌ إلا من له الخلقُ والأمر ، فهما مرتبطان ، فالخالقُ هو وحده المستحقُ لأن يُسمع أمره ويجتنبَ نهيه ، وهو وحده العالم بالخير والشر وقد علمنا إياه بطريقين ، إما بطريق الفطرة والعقل إذ هما مجبولان على معرفة الضروريات ، وإما في شرعه الذي أرسل به خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم .. والكلام في هذا الباب يطول وإنما ادرجناه لئلا يتوهم متوهمٌ أن المراد الإنغلاق على الذات ورفض كل ما هو أجنبيٌ عنا حتى وإن كان خيرا.